في تذكّر "وليد مسعود"

في تذكّر "وليد مسعود"

20 ديسمبر 2023
+ الخط -

رحل جبرا إبراهيم جبرا عنا في مثل هذه الأيام من عام 1994، وترك لنا "البحث عن وليد مسعود" ونحو 30 كتابا آخر بين رواية ونقد وأشعار وتراجم، إلى جانب لوحاتٍ ورسوم، وأعمال كثيرة أخرى. وفي هذا كله وجدنا ما يشبه بلاده الأولى فلسطين، وما لا يشبهها، وإذ سعى بعض الأدباء والمثقفين العراقيين إلى تبني فكرة جمع آثاره في "متحف" يقام في منزله في شارع الأميرات، شارع الطبقة البغدادية الأرستقراطية، يليق به وبمكانته المحفوظة في الثقافة العربية، فإن المسعى لم يقدّر له أن يكتمل لأسباب بعضها عائلي، وبعضها مرتبط بشكليات حكومية، إلى أن جاء القصف الأميركي للمنزل ليعصف بما تركه الراحل الكبير من ثروة ثقافية تُذكر وتستعاد.
كان جبرا قد استوحى في رواية "البحث عن وليد مسعود" تجربته الشخصية في جوانبها الاجتماعية والثقافية والروحية والسياسية معا، وحاول تجسيدَها في هذه الرواية وفي رواياته الأخرى، بخاصة "البئر الأولى" و"شارع الأميرات"، وبدا كما لو أن كل رواية تُكمل الأخرى، وعرض لنا، في سردية متنقلة بين المكان والزمان والأشخاص، تلك السيرة العريضة الحافلة بوقائعها ومتاهاتها، منذ نزح من بيت لحم، وهو صغير، ومنذ جاب في شبابه بلادا لم يعرفها، وعاش صراعاتٍ حادّة في فكره وقلبه. وبدت تلك التجربة، في فرادتها وعنفوانها، موزّعة بين الحب والضياع والهجرة والسعي إلى العمل من أجل قضية بلاده، ثم التوق لفعل شيءٍ من أجلها، وقد حصل على فترة استقرار وطمأنينة محسوبة، عندما أقام في بغداد، وتآلف معها، واختبر مجتمعها الذي مثّل في تلك الفترة تطوّرا مدنيا ناهضا وشفّافا. وتعرّف، خلال إقامته التي امتدت عقودا، إلى نخبة مثقفي العراق وكتّابه وشعرائه وفنانيه، حتى أصبح واحدا منهم، صار عراقيا صميميا، كما هو فلسطيني صميمي. 
وفي تقمّصه شخصية وليد مسعود، نجد خيار جبرا واضحا، الوقوف على المسافة صفر بين رؤيته للمرأة الأنثى الرقيقة كوطن والوطن الأول الذي حمل طموحه وأحلامه ومشروعه الروائي. وقد كشف لنا عبر عديد من المقاطع الرمزية في رواياته عن عمق تعلّقه بقضيته. خذ مثلا مقطع ترك "وليد مسعود" سيارته على طريق بغداد - دمشق الصحراوي، واختفائه في لا مكان، وعدم تمكّن أقرب الناس إليه، من أصدقائه وحبيباته من ملاحقة أثره. وهنا تبدو رمزية الاختفاء في الصحراء، وعلى الطريق بين عاصمتين كانتا في حينه تتجاذبان مشروعا قوميا واحدا، ينظر إلى فلسطين أنها قضيّته المركزية ومحور فاعليته. وقد برز لاحقا جانب آخر مثلته رمزية الاختفاء، هو رمزية انقطاع التواصل بين بغداد ودمشق، بما يعنيه من انكفاء المشروع القومي، وتراجع القضية التي شكّلت مركز اهتمامه ومحور فاعليته.

نتطلّع لأن تصبح حرب غزّة الماثلة أمامنا اليوم معبرا عريضا على طريق القطع بين زمنين

وثمّة كومة "رمزيات" وألغاز أخرى، عبّرت عنها التهويمات التي بثها وليد في شريط التسجيل الذي عثر عليه الأصدقاء في سيارته، عكست شخصية الفلسطيني التائه في الصحراء، لكنه المتمسّك بالأمل في أن يصل إلى ما يريده يوما ما، وعينه على فلسطين، وتظلّ مدينة بيت لحم في القلب وفي العقل، فيما تظلّ بغداد على مد النظر، وتحضر الأنثى كما تحضر فلسطين، كلتاهما وطن. وعلى قاعدة "السرد المراوغ" لا يتردّد وليد في الاستغراق في الذكريات، معتمدا ليس على تاريخه الشخصي، بل وعلى تاريخ وطنه الأول أيضا، وأيضا على تاريخ وطنه الأكبر. وهنا نلحظ، في شخصية وليد، تقدّم الفلسطيني المناضل من أجل قضيته إلى الأمام، فيما يتراجع الشاب العابث الموسوم بالخدر.
بالحيوية نفسها، تنضح روايات جبرا الأخرى بدقائق وتفصيلات الحياة الاجتماعية والثقافية الفلسطينية - العربية في فترة قدّر لها أن تشهد كل إرهاصات التغيير، وأن تكتسب لاحقا وصف "الزمن الجميل" الذي عمّر بين خمسينيات القرن الراحل ومنتصف سبعينياته، وهو الزمن الأعمق والأغنى بكل ما فيه ومنه، قبل أن يداهمنا زمن التطبيع والتراجعات المهينة، وعبث السياسيين، وخطط الترويض، والترهيب، والإذلال.
ولعلّنا مرّة أخرى، نحن الذين عشنا مع "وليد مسعود" آماله وأمانيه، وصور خيباته، نتطلّع لأن تصبح حرب غزّة الماثلة أمامنا اليوم معبرا عريضا على طريق القطع بين زمنين. وإذا كانت الميثولوجيا المهدية تبشّرنا بظهور من "يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما"، فان التغريبة الفلسطينية المديدة تعلمنا اليوم أن "وليد مسعود" وأشباهه شرعوا يرجعون من غيباتهم ليحرّروا أرضهم التاريخية من دنس الصهاينة ومن أرجاسهم، ويقيموا عليها دولتهم.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"