في تداعيات حلّ البرلمان التونسي

في تداعيات حلّ البرلمان التونسي

20 ابريل 2022

مظاهرة ضد قيس سعيّد في العاصمة تونس (10/4/2022/Getty)

+ الخط -

البرلمان من ركائز البناء الديمقراطي في الدول المتقدّمة، فعليه المعوّل في تمثيل الناخبين وعموم المواطنين، وهو المكلّف بسنّ القوانين وتمرير الاتفاقيات أو رفضها ومراقبة أداء الحكومة، ومنحها الثقة أو سحبها منها، ودوره فعّال في تأمين التوازن بين السلطات الثلاث (التنفيذية، التشريعية، القضائية)، وتعزيز الرقابة بينها، وفي ترسيخ مبادئ المواطنة وحقوق الإنسان. وناضل التونسيون طويلا، قبل الاستقلال وبعده، من أجل تأسيس برلمان تعدّدي. وغلب على المجلس النيابي زمن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة وخلفه زين العابدين بن علي اللون الحزبي الواحد، وظلّ البرلمان هيكلا تشريعيا صوريا، خاضعا لهيمنة رئيس الجمهورية وهواه. وشابت الانتخابات التشريعية خروقٌ خطيرة وشبهات تزوير كثيرة، حتّى أنّ النتائج كانت معروفة سلفا لصالح حزب الرئيس. أمّا بعد الثورة، فمارس المواطنون مِرارا حقّهم في اختيار ممثليهم في البرلمان في كنف النزاهة والشفافية، بشهادة منظمات رقابية محلّية ودولية، موثوقة. وضمّ مجلس النوّاب مستقلين وممثلين لجلّ مكوّنات الطيف الحزبي والمدني الوازنة، وفرض رقابةٍ على الحكومات المتعاقبة، وساهم، رغم هناته، في مأسسة التجربة الديمقراطية، وتأمين توازنٍ نسبي بين السلطات. ولكن الرئيس قيس سعيّد ضاق بالصلاحيات الدستورية المعتبرة التي تمتّع بها المجلس النيابي، فاغتنم حالة التجاذب السياسي الحادّ التي اعترت البرلمان بعد انتخابات 2019، فأمر بتجميد أشغاله واختصاصاته، وحكم البلاد بالمراسيم (25 يوليو/ تموز 2021). وبعد تسعة أشهر من إدارة البلاد بحكم الاستثناء المتعثّر، اجتمع 121 نائبا برلمانيا، وأقرّوا قانونا، ينصّ على بطلان المراسيم الرئاسية وإلغاء التدابير الاستثنائية (30 مارس/ آذار 2022). ودفع ذلك قيس سعيّد إلى إصدار أمر رئاسي بحلّ البرلمان. وهي سابقة في تاريخ تونس السياسي، لها تداعيات عدّة، دستوريا، وسياسيا، ودوليا.

منطق الإقصاء والإقصاء المضادّ بين الرئيس ومعارضيه هو الغالب حالياً، وهو ما يقود تونس إلى مزيد التوتّر والتأزيم والعزلة

من الناحية الدستورية، يذهب جلّ المختصّين في القانون الدستوري إلى أنّ مبادرة رئيس الجمهورية بتجميد البرلمان في مقام أوّل، وحلّه في مقام ثان، لا ترتكز على سند قانوني أو دستوري. ذلك أنّ الفصل 80 من دستور 2014 الذي ارتكن إليه سعيّد في إعلان التدابير الاستثنائية لا يمنحه صلاحية تجميد المجلس النيابي أو حلّه. بل ينصّ صراحة على أنّ يظلّ "مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة فترة حكم الاستثناء. ولا يجوز في هذه الحالة لرئيس الجمهورية حلّ مجلس نواب الشعب". وبناء عليه، اندرج اجتماع النواب افتراضيا، واستئنافهم النشاط البرلماني، في صلب مهامّهم الدستورية، بحسب قانونيين. كما أنّ استحضار الفصل 72 من الدستور التونسي أن "رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة، ورمز وحدتها، يضمن استقلالها واستمراريتها، ويسهر على احترام الدستور" لا يُسعف أصحابه بتبرير تعطيل البرلمان وغلقه نهائيا، فالفصل المذكور لا يتضمّن أي إشارة صريحة إلى المجلس النيابي. ومن ثمّة بدا قرار حلّ البرلمان في نظر مراقبين فعلا تعسّفيا/ ارتجاليا، يقع خارج دائرة الدستور، وهو في نظرهم اعتداء سلطة تنفيذية، تدعمها القوّات المسلّحة، على سلطة تشريعية منتخبة، ويندرج ضمن مسار تعزيز نفوذ رئيس الجمهورية وتجميع كلّ السلطات بيده، فهو الحاكم، وهو المشرّع، وهو المؤوّل فصول الدستور على طريقته. ويؤدّي ذلك عمليّا إلى أن يفقد الدستور قيمته الرمزية/ المرجعية باعتباره منجزا مدنيا جمعيّا، ووثيقة تعاقدية/ حقوقية تنظّم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ليصبح نصّا مهمّشا، تعلوه المراسيم الرئاسية، ويستحضره الحاكم متى يشاء، ويُلغيه متى يشاء، ويحمّله ما لا يحتمل بغاية خدمة مشروعه السياسي، وإقصاء معارضيه، وتوسيع نفوذه السلطوي. ويفضي ذلك النهج الوظيفي/ الانتقائي في التعامل مع الدستور إلى تيئيس الناس من مشروع التمدين والدمقرطة. ولسان حالهم يقول: ما الفائدة من بذْل الجهد والوقت والطاقة لبلورة دستورٍ تقدّمي، تتولّى السلطة الحاكمة تهميشه وانتهاكه، بدل السهر على حمايته والعمل على تنزيله في الواقع؟ وما الفائدة من التوجّه إلى صناديق الاقتراع، وانتخاب مجلس نيابي مستقبلا إذا كان الرئيس في مقدوره أن يحلّه بجرّة قلم وبمرسوم من أسطر معدودة؟

سياسيا، يذهب مراقبون إلى أنّ مبادرة النوّاب بعقد جلسة افتراضية كانت استفاقةً متأخّرة ضدّ التدابير الاستثنائية/ الأحادية التي وضعها الرئيس قيس سعيّد. لكنّها حملت طيّها عدّة دلالات، لعلّ أهمّها تمسكهم بدورهم التمثيلي، والرقابي، وانتفاضتهم ضدّ قرار التجميد الذي أصدرته السلطة التنفيذيّة ضدّهم. ويبدو أنّهم أرادوا بذلك تكسير جدار الصمت إزاء التوجّهات السلطوية للرئيس، والإخبار بأنّهم ما زالوا فاعلين في المشهد السياسي، وراموا رفع الحرج عن أنفسهم أمام ناخبيهم، وإحراج رئيس الجمهورية ومستشاريه الذين أربكتهم المبادرة النيابية المفاجئة، لأنّهم راهنوا على استحالة اتحاد عدد كبير من النواب ضدّ التدابير الرئاسية. لكنّ ما حصل في ذلك الاجتماع النيابي أخبر بخلاف ذلك، فقد اتسعت جبْهة مَن يُعارضون سياسات الرئيس لتشمل أحزابا وازنة، ممثلة في البرلمان، ذات مرجعيات أيديولوجية وبرامجية متباينة (حركة النهضة، التيار الديمقراطي، قلب تونس، ائتلاف الكرامة، تحيا تونس). اتفقت جميعها على إلغاء المراسيم الرئاسية، واعتبار التدابير الاستثنائية خطرا جاثما على البلاد. ودفع ذلك قيس سعيّد إلى الانتقال من قرار تجميد البرلمان إلى الأمر بحلّه، والحال أنّه صرّح قبل يومين من اتخاذ ذلك القرار بأنّ حلّ البرلمان غير ممكن دستوريا. وأظهر ذلك التوجّه الرئيس في صورة مَن يتقصّى من الدستور ويناقض نفسه في آن. ونعت سعيّد النواب المجتمعين بـ"الخونة والانقلابيين"، وأوصى النيابة العمومية بتتبّعهم قضائيا بدعوى "تآمرهم على أمن الدولة"، فبدا ميّالا إلى التعامل العقابي/ الأمني مع مسألة سياسية خلافية. وأنتج الأمر بحلّ البرلمان نزاعا غير مسبوق على الشرعية بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، فالرئيس منتخب والنواب منتخبون، وكلاهما يدّعي احترام الدستور، والأحقّية بإدارة البلاد، وأدّى ذلك عمليّا إلى انقسام المجتمع السياسي التونسي، وتغذية أسباب التوتّر والاستقطاب بين أنصار الرئيس وخصومه.

تغادر تونس نادي الديمقراطيات الناشئة، وتستعيد ملامح حكم شمولي/ أحادي سئمه التونسيون على امتداد عقود قبل الثورة

أمّا دوْليا، فأدّى الأمر بحلّ البرلمان إلى تدويل الأزمة السياسية التونسية باعتبار أنّ بعض النوّاب قدّموا شكاوى ضدّ رئيس الجمهورية لدى هيئات حقوقية وأممية، فيما لوّح آخرون بتأسيس برلمانٍ في المهجر. وعدّ ملاحظون حلّ المجلس النيابي خطوةً جديدةً في مسيرة انقلاب تدريجي على المنظومة الديمقراطية، فبعد إزاحة الحكومة، وتعليق معظم موادّ الدستور، وإلغاء الهيئة العليا لمراقبة دستورية القوانين، وحلّ المجلس الأعلى للقضاء، وحكم البلاد بالمراسيم، جرى التخلّص من البرلمان باعتباره ركيزة الديمقراطية التمثيلية. وبذلك تغادر تونس نادي الديمقراطيات الناشئة، وتستعيد ملامح حكم شمولي/ أحادي سئمه التونسيون على امتداد عقود قبل الثورة.

وأثار حلّ البرلمان حفيظة عدّة أطراف دولية وازنة على علاقة بالمسار الديمقراطي في تونس، فقد عبّر المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، فرحان حق، عن "قلق المنظمة الدولية إزاء قرار الرئيس التونسي قيس سعيّد حل البرلمان، مطالبا جميع الأطراف بالإحجام عن أي أفعال تؤدّي إلى مزيد من التوتر السياسي". كما اعتبرت رئيسة اللجنة الأوروبية للديمقراطية من خلال القانون، المعروفة بـ"لجنة البندقية" ما حدث " تراجعا خطيرا في مؤشّر الديمقراطية في تونس، وابتعادا عن مربّعات الممارسة التشاركية، وخرقا واضحا للدستور التونسي". ووصفت اللجنة الدولية للحقوقيين قرار الرئيس قيس سعيّد حلّ البرلمان التونسي بـ "الباطل وغير القانوني". ودعت منظمة العفو الدولية إلى "إسقاط التحقيقات ذات الدوافع السياسية ضد نواب المعارضة، واحترام حقوقهم في حرية التعبير والتجمّع السلمي وتكوين الجمعيات أو الانضمام إليها، وحماية هذه الحقوق وتعزيزها وتطبيقها، بما يتماشى مع التزامات تونس الدولية في مجال حقوق الإنسان" (08/04/2022). ومن المتوقّع، بحسب الأجندة الرئاسية، أن تبقى تونس شهورا من دون برلمان لأوّل مرّة منذ الاستقلال، وهو ما يؤثّر سلبا على صورة البلاد في الخارج. ذلك أنّ عدم استقرار المشهد السياسي، وضبابية المستقبل، وانتشار الشعور باللايقين، لا يشجّع المستثمرين على التوجّه قِبلة تونس. كما أنّ بطء وتيرة الإصلاح، والتنازع على السلطة، وغيْبة الحكم التشاركي، معطياتٌ لا تحفّز الجهات المانحة على تقديم مساعدات مالية مجزية وميسّرة للنظام الحاكم في تونس. وبذلك، لم يكن قرار حلّ البرلمان حلاّ سحريا لمشكلات البلاد. بل زاد في أزمتها المعقّدة، وعزّز عزلتها دبلوماسيا واقتصاديا على الصعيد الدولي، بحسب مراقبين.

ختاما، كان بالإمكان بدل إحالة نوّاب منتخبين على القضاء وعلى فرقة مكافحة الإرهاب لأنّهم مارسوا بحسب خبراء في القانون حقّا دستوريا، التوجه إلى تفعيل حوار تشاركي جامع، لا يقصي إلا من أقصى نفسه بغاية إرساء المحكمة الدستورية، وفكّ مغالق الأزمة السياسية الحادّة، وتجاوز المأزق الاقتصادي الذي تردّت فيه البلاد، ويعاني المواطن شدّته، والتوصّل إلى حلول توافقية تعيد تونس إلى سكّة المسار الديمقراطي. لكن يبدو أنّ منطق الإقصاء والإقصاء المضادّ بين الرئيس ومعارضيه هو الغالب حاليّا، وهو ما يقود تونس إلى مزيد التوتّر والتأزيم والعزلة.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.