في انحدارنا الحالي الكبير

في انحدارنا الحالي الكبير

03 ديسمبر 2022

(كمال بلاطة)

+ الخط -

من الألقاب التي أحبّها حافظ الأسد، وروّجها الإعلام السوري دائما عنه، لقب "راعي الأدباء والفنانين"، ما يعني أن كل ما يختصّ بالأدب والفن هو محمي ومُعتنى به، ويمتلك فضاء رحبا ومساحة واسعة من الاهتمام. والحقيقة أنه في زمن حافظ الأسد نادرا ما جرى اعتقال كتّاب وفنانين إلا من كان منهم منتميا لأحزاب سياسية معارضة له، غير أن هامش الحرية الذي لطالما تباهى به الإعلام السوري كان لا يتعدّى مسرح الشوك الذي أسّسه دريد لحام مع محمد الماغوط، حيث يمكن انتقاد الحكومة والمحيطين بها على سوء الخدمات. .. ومثل مسرح الشوك، كانت الصحافة لا تتجاوز الخط المسموح به للنقد، ومثلها الكتابات الأدبية التي كانت تخضع للرقابة قبل طبعها ونشرها. والمفارقة أن لجنة الرقابة كانت تابعة لاتحاد الكتاب، وأعضاء اللجنة هم أعضاء في الاتحاد، ويفترض أنهم كتّاب وأدباء، لكنهم قبلوا بدور الرقيب على منتج الآخرين في تماهٍ كامل مع دور النظام في الرقابة على السوريين. اتحاد الكتاب ونقابة الفنانين ونقابة الصحافيين، المؤسّسات التي أنشأتها القيادة القُطرية لحزب البعث الحاكم، كانت الدليل على استحقاق حافظ الأسد لقب "راعي الأدباء والفنانين"، فهذه النقابة لم تكن سوى سلطة أمنية ورقابية على المنتسبين لها عزّزت وجود الرقيب الداخلي لدى المبدعين.

ولإكمال الهالة حول شخصية حافظ الأسد الراعية للآداب والفنون، اهتم هو ونظامُه بعلاج من كان يحتاج للعلاج من الكتّاب والفنانين السوريين، يترافق ذلك مع حملة إعلامية عن "اهتمام السيد الرئيس بصحة فلان وتوجيهه الجهات المعنية بالتكفل بعلاجه على نفقة الدولة". أما جملة على نفقة الدولة فلم يكن أحد ينظر إليها إلا بوصفها مرتبطة بشخص الرئيس، فالدولة هي الرئيس والرئيس هو الدولة.

هكذا كان حافظ الأسد يبدو كما لو أنه يعالج المرضى من المبدعين على نفقته الخاصة، فلا بد من توجيه الشكر والعرفان له على هذه المكرمة الاستثنائية التي خصّ بها هذا أو ذاك. بينما كان من واجب الدولة، أي دولة تحترم كيانها ومواطنيها، أن تعالج جميع مواطنيها على نفقتها، فالأمان الصحي وضمانه للجميع من أول حقوق المواطنة، وليس للدولة أو نظامها أي جميلٍ في تأمينه للمواطنين، هذه من وظائف الدولة ومن حقوق المواطن.

من ضمن من جرى علاجهم زمن حافظ الأسد الفنانة السورية أصالة نصري. كانت تعاني من مشكلةٍ في عظم ساقها تؤثّر على حركتها. كانت أصالة في ذلك الوقت في بداية ظهورها، وتدخل والدها الفنان مصطفى نصري لدى مكتب الرئاسة، كما أشيع وقتها، ليتم إرسالها للعلاج، وهو ما حدث فعلا، مثلما حدث مع شخصيات سورية عديدة وقتها.

حين انطلقت الثورة السورية، وأعلن المبدعون والفنانون مواقفهم منها، كانت أصالة نصري من الفنانين الذين رفضوا الحل الأمني، ووقفت بجرأة إلى جانب الشعب السوري المتعرّض إلى واحدة من أكثر جرائم العصر الحديث وحشية. ما جعل إعلام النظام يشنّ حملة شعواء ضدها، ويتهمها بقلة الأصل، وبأنها عضّت اليد التي قدّمت لها الخير، معايرين إياها بأنها كانت "عرجاء"، وأن حافظ الأسد أنقذها من عرجها. وترافق هذا مع سيل من الشتائم التي يُحسب لأصالة أنها ترفّعت عنها، وبقيت على موقفها من قضية الشعب السوري، من دون أن تدخل في المهاترات والتخوين المضاد.

يشنّ الملحن المصري، حلمي بكر، منذ أيام، حملة شعواء على أصالة، بسبب أقوال لها في حفلها أخيرا في السعودية، ويستعيد في حملته الجمل نفسها التي استخدمها إعلام النظام السوري ضدها قبل عشر سنوات "قليلة الأصل عضّت يد حافظ الأسد التي منحتها الشفاء وخانت بلدها". وللحقيقة، يحار المرء في الرد على انحدارٍ كهذا بعد كل ما حصل في بلاد العرب من كوارث لا تُحصى، سببها الأول ربط النظام بالوطن وتحويل الأوطان لتبدو كما لو أنها مزارع مملوكة لهذا الرئيس أو ذاك. والأدهى أن كلاما كهذا يأتي من شخصيات عامة، حضورها يجرّ وراءه سيلا هائلا من الآراء القطيعية المشابهة، بحيث يصبح قوله حقيقةً لا يُراجع معناها أحد، ما يجعل مشروعية السؤال عن الانحدار في الفنون الدي نعيشه حاليا، ومدى ارتباطه بانحطاط الفهم السياسي لدى كثيرين من صانعي الإبداع أمرا صائبا، ولا بد من التذكير به في كل مناسبة مشابهة.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.