في أكتوبر الوردي

في أكتوبر الوردي

21 أكتوبر 2020
+ الخط -

لا يمكن أن أسلِّم أن الشعار الورديَّ لمرض سرطان الثدي عند النساء قد تم اختياره بناء على قرار التضامن العالمي مع المصابات بهذا المرض، ولكني أكاد أجزم أنه قد تم اختيار هذا اللون بالذات؛ لأنه لون وجنتيها، فأنا لم أر في حياتي في جمالهما ولونهما الوردي الذي لا يشبهه إلا خدُّ وردةٍ في حديقةٍ غنَّاء، وردةٍ تساقطت فوقها قطرات الندى، وردةٍ تقف منفردة شامخة بين الأشجار، على غصن ميَّال، ولكن جمالها جعلها محطَّ حسد وطمع. وهناك، بالطبع، يد قد امتدّت؛ لتقطفها، وتسلبها حياتها.

كانت معلِّمتي، وكنت أنشغل بتأمُّل اللون الورديِّ على وجنتيها، عن متابعة درسها، وكانت تلحظ أنني أقضي حصَّتها في حالة سرحان، ولكنها كانت تحبُّني؛ فلم تشأ يومًا أن تحرجني؛ لكي تسألني سؤالا لا أعرف إجابته، ولكني تحوَّلتُ إلى طالبة مُحِبَّة لمادَّتها، من حبِّي لها، خصوصا أن لون وجنتيها هو نسخة، طبق الأصل، من لون وجنتي أمي التي تعمل معلِّمة أيضا.

ولم أكن أعلم أن النساء الجميلات موعوداتٌ بالمرض، إلا حين أصبحت أكبر من مريول المدرسة، المخطَّط باللونين الأبيض والأزرق، حيث التقيتُها في ردهة أحد المستشفيات. وأخبرتني، وعيناها البُنيَّتان تفيضان بالأمل أن هناك اشتباهًا بإصابتها بسرطان الثدي، وأنها قد جاءت لإجراء تحاليل أكثر تنفي، أو تؤكّد، وقد أمسكتُ بأطراف أصابعها الشمعية الباردة، وضغطتُ عليها، وأنا أؤكِّد لها أنهم مخطئون.

لم يكونوا مخطئين، فقد بدأت أخبار مرضها تنتشر، ومعها أخبار انهيار حياتها الزوجية بسببها، فقد تحدَّث كثيرون عن ترك زوجها البيت، وتحدَّث كثُرٌ عن زواجه من أخرى، بسرعة، فيما أكَّدت الأكثرية العظمى حقَّه بالزواج من امرأة معافاة، فليس ذنبه أن يعيش مع امرأة تمَّ استئصال واجهة أنوثتها. وأيَّد الجميع قراره، وأثنوا عليه؛ بأنه "صاحب واجب"؛ فلم يأتِ بالزوجة الجديدة إلى الزوجة المريضة، والتي تدهورت حالتها الصحية؛ بسبب سوء حالتها النفسية، وأسفها على شريك العمر الذي أنجبت منه حفنة من الأولاد، في مراحل دراسية مختلفة، هم بحاجةٍ لرعايةٍ لا تستطيع توفيرها لهم، فهي تقضي وقتها بين المشافي؛ للحصول على جرعات العلاج الكيماوي، بعد أن انتشر السرطان في أجزاء أخرى من جسدها الهزيل، وبات الموت يقف على عتبة بيتها، المحاط بحديقةٍ جفَّت أوراق أشجارها، واصفرَّت، وكانت تتغنَّى بخضرتها وجمالها واهتمامها بها.

فأل سيِّئ، هكذا اخبرني كلُّ من حولي، وأنا أنشد زيارتها، وأخبار مرضها تنتشر في مدينتنا الصغيرة، وحيث لا يبات فيها خبر حتى الصباح، فالفأل السيِّئ أنه لا يجدر بي زيارة مريض، فكيف بزيارة مريضةٍ أصيبت بسرطان الثدي، وأنا ما زلت عروسًا، لم يمر على زواجها سوى أيَّام، وبكيتُ معلِّمتي في صمت، وحيث لم أكن أملك قرار الخروج وحدي من البيت.

ماتت معلِّمتي، وعمَّني حزن مقيم، أياما، ثم شهورا متتالية، وكنت أفكِّر بخيانة زوجها لها، وكيف تركها تصارع الموت، بعد أن صارعت معه وحشة الحياة، في بداية حياتهما الزوجية، ولم تغب وجنتاها الورديَّتان عن خيالي، وأنا أصل إلى قناعةٍ بأن المرض وسوء الحظ يختاران النساء الجميلات، فأمي تصارع مرض الربو، منذ فتحتُ عينيَّ على الحياة، ولكن أبي تمسَّك بها، حتى آخر أيَّامها، ولم يفكِّر أن يتركها، حتى بعد أن تهتَّك عظمها؛ بسبب العلاج المزمن بالكورتيزون، ولكن الرجال حولي ليسوا مثل أبي .. هكذا قلتُ لنفسي، وأنا أتوجَّس خيفةً من رجل يُدعى شريك حياتي، وصرت أستمع لقصص وحكايات في مجالس النسوة عن خيانات الأزواج. وكانت إحداهن تتباهى بأن بطنها يكبر، بصورةٍ غير طبيعية، وزوجها يمنعها من زيارة الطبيب؛ لكشف سرِّ تضخُّمه، ويقول لها ضاحكًا إن كبر بطن المرأة سرُّ جمالها، ودليل غنى زوجها. وقد لاحظت كبره غير الطبيعي، في أثناء جلستنا، حتى عرفتُ أنها مصابة بسرطان في الأحشاء، وفي مراحل متقدِّمة، وماتت، وصوت ضحكتها المتباهية يرنُّ في رأسي، يوم أن كانت فرحةً بتعليق زوجها على كبر بطنها.

avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.