عن قوّة المعرفة

عن قوّة المعرفة

02 أكتوبر 2020
+ الخط -

لا يخصّ الحديث هنا لعبة "المعرفة قوّة" التي أطلقتها شركة "بلاي ستيشن" في عام 2017، وصُنفت عالمياً من أفضل الألعاب الإلكترونية للأفراد والعائلة، لما فيها من تمارين تساعد على تنمية مواهب مستخدميها ومعارفهم، فضلاً عن تنمية روح الفريق، لأنها تعتمد على اللعب الجماعي. الحديث هنا يعود بنا إلى قرون بعيدة، أدرك الناس فيها قوة المعرفة، منذ انتشر قول "المعرفة قوة" المنسوب غالباً إلى المحامي والبرلماني البريطاني، فرانسيس بيكون (1597-1626)، ويَنسبه آخرون إلى توماس جيفرسون (1743 - 1826) ثالث رؤساء الولايات المتحدة، عندما قال: "تظل آمالي مقيدة بنفوذ الهيئات التشريعية في بلدنا التي لا يمتلك أعضاؤها عموماً معلومات كافية لإدراك الحقائق المهمة، وأن المعرفة هي القوة، والمعرفة هي الأمان، وهذه المعرفة هي السعادة". 

مناسبة الحديث عن المعرفة وعلاقتها بالقوة، هي القراءة في كتاب "المعرفة: هل المعرفة قوة" لماريان أدولف ونيقو شتير، الذي صدر قبل أيام عن دار جامعة حمد بن خليفة، بترجمة الأستاذ الزائر في معهد الدوحة للدراسات العليا، سعود المولى. يقول الكاتبان: "ينظر إلى المعرفة عادة على أنها بضاعة عمومية أو سلعة مشتركة بامتياز، فإن روح العلوم العامة تتطلب أن تكون متاحة لجميع أعضاء الجماعة العلمية باعتبار العلم بضاعة عمومية.. ولكن الأمر يختلف حين تتحول المعرفة إلى تكنولوجيا، إذ تصبح بضاعة أساسية خاصة". كلما تقدّمت مسيرتنا في ثنايا عالمنا الحديث، نجد أمامنا تلك الظاهرة التي نسميها المعرفة. وسواء المعرفة العملية البسيطة أو المعقدة، في السياسة أو التعليم، فإن مفهوم المعرفة هو الذي يربط بين كل هذه المجالات. ولكن على الرغم من كلية حضورها، بوصفها وجهاً بلاغيّاً حديثاً في الاستعمال اليومي، فإننا نادراً ما نقع على المعرفة بحدِّ ذاتها. بمعنى كيف تُنتج وأين تكمن ومن يمتلكها؟ هل المعرفة دائماً مفيدة؟ وهل سنتمكّن من معرفة كل ما يمكن معرفته في يوم ما في المستقبل؟ وهل صحيح أن المعرفة تساوي السلطة/ القوة؟

يتطرّق الكتاب في صفحاته الـ300 إلى تفصيل المفاهيم الكلاسيكية للمعرفة، بوصفها قدرة على الفعل، أو بوصفها سلطة، ويُشرّح أشكال المعرفة ووظائفها، والفروق بين رأس المال البشري والمعرفي، إلى أن يتطرّق في فصل أخير إلى العلاقة بين المعرفة والسلطة أو القوة والمشاركة. وفي مقاربة جديدة أصيلة، يحاول الكتاب أن يقارب هذه المفاهيم التي صارت، على ما يبدو، تحدّد كثيراً من سمات المجتمعات الحديثة. ويتناول المؤلفان الموضوع من منظور سوسيولوجي، يستكشف الطرق المتعدّدة التي تتداخل عبرها المعرفة في نسيج المجتمع الحديث.

والمعرفة ليست قوة فقط، بل هي البوابة نحو الحرية والتحرّر، كما يقول الأمين العام للأمم المتحدة الأسبق، كوفي أنان: "المعرفة قوة، المعلومات تُحرّر، التعليم هو أساس التقدّم في كل مجتمع وفي كل أسرة". وبهذا المعنى، يتفق أنان مع فلسفة فرانسيس بيكون، عندما يقدّم قائمة من الحواجز النفسية التي تحول عن تحصيل المعرفة العلمية، وسمّاها "الأصنام العقليَّة"، وهي: "أصنام القبيلة"، أي نزوع الناس نزوعاً جنسياً قَبَليّاً للتعميم؛ ثم "أصنام الكهف"، أي نزوع البشر إلى فرض أفكار مسبقة على الطبيعة بدلاً من رؤية الطبيعة كما هي، و"أصنام السوق"، وهي نزوعنا إلى السماح للأعراف الاجتماعية بتشويه تجربتنا، وأخيراً "أصنام المسرح"، وهي الأثر المُشوِّه للمعتقدات الفلسفية والعلمية السائدة. ويدعو بيكون العالم إلى مجابهة جميع هذه الأصنام لمعرفة العالَم. 

وتزداد قوة المعرفة في زمن البيانات الضخمة والتقنيات الرقمية، إذ لم تعد قوة الأمم تُقاس بعدد الجيش أو عديده، بل بطوابير الخبراء والمطوّرين القادرين على حماية الفضاء الافتراضي، حيث ساحات المواجهة المستقبلية. ولا تكون المعرفة قوة، إلا إذا كانت متاحةً للناس، ويتوافق في ذلك المؤلفان، ماريان أدولف ونيقو شتير، مع بيل غيتس، مؤسس "مايكروسوفت"، وهو يعتبر أن "القوة لا تأتي من المعرفة التي تحتفظ بها لنفسك، بل من التي تنشرها بين الناس".

AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.