عن تأثّرنا بالتحوّلات الدولية

عن تأثّرنا بالتحوّلات الدولية

19 ابريل 2023
+ الخط -

رغم تأثّر النظم الإقليمية عموما بما يجري في المستوى الأعلى من النظام الدولي، إلا أن النظام الإقليمي الشرق أوسطي، وفي قلبه المنطقة العربية، يعدّ أشد عرضة من غيرِه للمؤثرات الخارجية، وأكثر حساسيةً للتحولات الدولية، وذلك نتيجة عوامل ومسبّبات جيوسياسية وتاريخية، برزت خصوصا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى التي كانت لنتائجها اليد الطولى في تشكيل إقليم الشرق الأوسط الحديث. في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، انقسمت المنطقة وفق خطوط الحرب الباردة، لكن كثيرين انتقلوا مع غروب شمس الاتحاد السوفييتي للوقوف تحت المظلة الأميركية في عصر القطب الواحد. كان مصير الممانعين العزلة والإنهاك وحتى الغزو، كما حصل مع العراق.

عندما انطلق الربيع العربي، كانت واشنطن قد بدأت تدير ظهرها للمنطقة، بعدما منيت فيها بفشل ذريع (نشر الديمقراطية انطلاقا من العراق)، وازدادت غربتها عنها بفعل ثورة النفط والغاز التي حوّلت الولايات المتحدة إلى قوة طاقية كبرى، وأخذت تركّز بدلا من ذلك على شرق آسيا ومنطقة الباسيفيك، ما سمح للقوى الإقليمية بهامش حركة كبير، فاحتدم التنافس بينها على النفوذ والسيطرة، وكان ذلك سببا في تحول عدد من دول الثورات العربية إلى مسرح لصراع مرير (سورية واليمن وليبيا). عندما اضطرّت واشنطن للعودة الى المنطقة بسبب صعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وإعلانه "دولة الخلافة"، انكفأت دول الإقليم (العربية خصوصا)، وتغير تركيزها بفعل الضغط الأميركي نحو مواجهة "داعش".

مع انتهاء الحرب على الإرهاب (داعش)، عادت واشنطن إلى التركيز على شرق آسيا بعدما هالها صعود الصين التي استغلّت انشغال واشنطن في صراعات العالم الإسلامي لتعظيم مصادر قوتها. الانكفاء الأميركي عن المنطقة، وتردّد واشنطن في الدفاع عن حلفائها، فتحا الباب مجدّدا على تغيرات عميقة في بنية النظام الإقليمي. لكن الإنهاك في هذه المرحلة كان قد أصاب الجميع بسبب حروب العقد السابق، وهي نتيجةٌ يرى بعضهم أن أميركا ربما ساهمت في بلوغها من خلال ترك الجميع يتقاتلون إلى حد الإنهاك.

ومع تبنّي الرئيس بايدن مقاربة سلفه في تجاهل صراعات المنطقة، والتركيز بدلا من ذلك على التنافس الاستراتيجي مع روسيا والصين، أخذت استقطابات المنطقة القديمة تتلاشى، لتحلّ محلّها مقاربات أكثر واقعية، أثمرت تغيرات كبرى، كان أهمها التفاهم السعودي - الإيراني والتفاهم التركي - المصري. وبالتوازي مع انحسار النفوذ الأميركي، وتحرّر القوى الإقليمية من ضغوط الأجندة الأميركية، بدأت حظوظ ما سمّيت "بالاتفاقات الإبراهيمية" تتراجع، وهي التي تحوّلت، في عهدي ترامب وبايدن، إلى ركيزة أساسية للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، سمحت بحصول تطبيع بين إسرائيل وعدة دول عربية (الإمارات، البحرين، المغرب، السودان)، بهدف عزل إيران، ومضايقة تركيا، عبر توطيد أسس تحالف شرق أوسطي جديد (ناتو إقليمي).

ورغم عدم اتّضاح الأسس التي قام عليها التقارب السعودي - الإيراني، والتزاماته، فإن المرجّح، بحسب المعطيات، حصول انفراجة في اليمن، تُنهي التورّطيْن السعودي والإيراني في الصراع، من دون أن تؤدّي، بالضرورة، إلى حله، نظرا إلى تعقيد الوضع الداخلي اليمني. وقد ينطبق هذا في سورية أيضا، وإن كانت الأمور فيها أعقد، نظرا إلى تعدّد الأطراف الخارجية المنخرطة في الصراع. أما المصالحة المصرية التركية فيتوقع لها أن تنعكس إيجابا في ليبيا، حيث دخل الطرفان في حرب وكالة مستمرة منذ عام 2014، حيث أيّدت مصر قوى شرق ليبيا، وفي مقدمتها اللواء المتقاعد خليفة حفتر ومجلس نواب طبرق، فيما أيدت تركيا قوى الغرب والحكومات التي تتّخذ من طرابلس مقرّا لها. يتوقع أن تحصل أيضا عملية إعادة اصطفاف في التنافس على الطاقة في شرق المتوسّط، حيث دخلت مصر في تحالفٍ هدفه عزل تركيا، وضم إليها قبرص واليونان.

شكّل صعود الصين في النظام الدولي عاملا مهما آخر في تغير السياسات الخارجية لدول الإقليم، فالدول الصغيرة والمتوسطة ترتاح أكثر في نظام ثنائي أو حتى متعدّد الأقطاب، حيث يمكنها المناورة بين القوى الدولية واستغلال المنافسة بينها لمصلحتها، وهو ما تفعله دول عديدة حاليا في المنطقة، وفي مقدمتها السعودية والإمارات ومصر، حيث تعمد إلى التقارب مع الصين وروسيا بهدف الحصول على شروط تحالف أفضل مع الولايات المتحدة، لكن بعضها قد يمضي إلى أبعد من ذلك، مع تعاظم أثر التغييرات في النظام الدولي.