عندما يناصر قوميون عرب جرائم الأسد

عندما يناصر قوميون عرب جرائم الأسد

12 اغسطس 2023

الأسد يتحدّث إلى وفد المؤتمر القومي العربي في دمشق (2/8/2023/ موقع وكالة الأنباء السورية)

+ الخط -

رفع بشّار الأسد سقف العنف السياسي إلى أقصى درجة، مارس حربا ضد شعبه، ومعها أصبح السوريون ضحايا الشتات والقتل والقمع، وتعرّض من تبقوا داخل البلاد لمخاطر متزايدة من الإفقار والتمييز الطبقي والطائفي. وقد وصفت الأمم المتحدة سورية بأكبر حالة طوارئ إنسانية، جاوز عدد اللاجئين والنازحين 13 مليونا (نزح في الداخل 6.7 ملايين وخارجيا 5.5 ملايين). هذا غير حالة الجوع، في بلدٍ كان يكفيه إنتاجه من القمح (هبط إلى الربع حاليا)، ولديه فائض للتصدير، فيما يشهد انهيارا اقتصاديا وخرابا شاملا وحربا أهلية جعلت سورية ضمن أكثر مناطق العالم افتقادا للأمن الغذائي بجانب اليمن والسودان. كان نصف السكان في العام 2014 يحتاجون مساعدات إنسانية ضرورية، وارتفعت نسبتهم في 2022 إلى 70%.

وتزيد أزمة اللاجئين مع تضييقات وإجراءات اتخذتها دول الجوار، لبنان والأردن وتركيا (تستضيف نصف اللاجئين تقريبا). يخشى السوريون العودة طوعا أو إرغاما، خوفا من قمع النظام واحتمالات الانتقام. وقد صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة، في يونيو/ حزيران الماضي، لصالح إنشاء مؤسّسة مستقلة لبحث مصائر عشرات الآلاف، صاغت مشروع القرار بلجيكا ومقدونيا، لكن مندوب سورية اعتبره مسيسا وتدخلا في شؤون بلاده، وكل حديث عن السجناء والقتلى والمفقودين يمسّ سيادة النظم السلطوية!.

هذا جزء من حصاد ثقيل من الفظائع، تعذيب وسجون وقتل وجرائم حرب، وندرة في فرص كسب العيش، ستجعل أزمة اللاجئين مستمرّة لسنوات، فاقدين الأمل في العودة إلى بلادهم، 65 منهم بيوتهم مهدّمة، وآخرون يخافون الانتقام، والذي يتكرّر في شكل عمليات احتجاز تضاعف أعداد السجناء، مع احتمال زيادة عدد القتلى الذي تجاوز، حسب التقديرات، نصف مليون. يكذّب النظام الواقع، وكثيرا ما أظهر أن ما يجري مكافحة مؤامرة كونية، معتبرا نفسه يقاوم، لذا فالقتل مبرّر من أجل انتصار سورية على مواطنيها!

باختصار، نحن أمام بلد يجسّد نموذجا للدولة الفاشلة، منهار اقتصاديا، مقسّم ومفسخ اجتماعيا، وبخريطة جديدة على مستويين، جغرافي وديمغرافي، ساهمت فيها عمليات إحلال وإبدال، مارسها النظام أولا ثم المليشيات في حربٍ أهلية، وتنوّع رايات المسيطرين على الأرض، في مواجهة الانتفاضة منذ البداية، وشكّلت جرائم النظام، بما فيها أعمال الحصار والتمييز والتجويع، مستقبل سورية.

يفتعل بشار الأسد التفلسف في لقائه مع ضيوفه من وفد المؤتمر القومي، وهم ينتصرون بمقاومته الغزو الأميركي الصهيوني وصموده الذى أفضى إلى الانتصار!

اما عن الوعود بحلول سياسية مع بقاء النظام فهي متكرّرة منذ 2013، ومع زيارات عربية لوفود من قومين عرب، بما فيها إطلاق سراح المعتقلين، إعادة النازحين، عشر سنوات، والمأساة في ازدياد، والتقسيم أصبح واقعا. يعلم بالتأكيد، هذا وأكثر، المرشّح الرئاسي المصري السابق حمدين صبّاحي، والحائز ثلث أصوات المصريين المقترعين (في أول انتخابات ديمقراطية) الذين وثقوا في خطابه وتاريخه السياسي، منحوه أصواتهم، ثقةً ورغبةً في التغيير، وتقديرا لامتلاكه حسّا سياسيا وانحيازا إنسانيا. وللحقيقة، حاول حمدين، وتعرّض للضغوط والهجوم الذي لم ينقطع، حين واجه سنوات أخيرة من حكم عبد الفتاح السيسي، واصفا إياه بالنسخة الأكثر بؤسا ورداءة، قوبل باتهاماتٍ كالتي توجّهها المعارضة السورية، الارتباط بأجندات خارجية، ودعم قوى الإرهاب، وغيرها من قاموسٍ طويل ومكرّر، طاول وجوها معارضة، منها من صمت ومنها من يدفع الضريبة سجنا وقهرا وهجرة واستبعادا.

لم تكن زيارة بشّار الأسد ممكنةً من دون غطاء توصيف الثورة المضادّة الانتفاضات العربية بأنها مؤامرة صهيونية أميركية، لم يعد التفسير للحقيقة خاصّا بالثورة المضادّة، فقد اتسع مع عامل الإحباط، وربما مع مصائر الثورات والانتفاضات المؤسفة، فأصبحت المشكلة في الثورة لا المستبدّين، وانعكست الهزائم على النخب، لتسلّم بالأمر الواقع رغم بؤسه، وتجعل الترحيب بتنصيب رؤساء الضرورة والممانعة ومناهضة قوى الهيمنة، ومنهم بشّار الأسد، ممكنا ومبرّرا، ذلك مهما كانت التكلفة باهظة، والنتائج المحتملة سوداوية، أو هكذا اتّضحت بعد سنوات.

حكمت عائلة الأسد في سورية نصف قرن بتوريث بشّار الحكم، التوريث ذاته الذي كان يقلق المصريين في العقد الأخير من رئاسة حسني مبارك، وحاربه طيف من نخب مصرية، تمسّكا بالكرامة، وكان حمدين صبّاحي في مقدّمة الصفوف، مع طيف وطني، للتمثيل والتنوع. في المشهد، كان يقف في تظاهرة ضد التوريث محمد عبد القدوس وكمال خليل وعبد الجليل مصطفى وآخرون، حينها هتف حمدين الذي يوصَف زعيما للمعارضة: "لقد خلقنا الله أحرارا، ولم يخلقنا تراثا أو عقارا، ولن نورث بعد اليوم"... في استدعاء مقولة عرابي ورفاقه. المشهد أمام قصر عابدين في القاهرة حاضر في الأذهان وكأنه الأمس، وسط حصار أمني مشدد. وقبل ثورة يناير (2011) بأشهر قليلة، كان حمدين مبشّرا بالثورة متجاوزا المنظور الحقوقي إلى تغيير طبقي ينحاز للناس ويغيّر أوضاعهم الاجتماعية، لكنه في زيارته قبل أيام دمشق، ردّا منه على انتقاداتٍ بمقابلة الاسد، رأى أن الأصدقاء ناقدي موقفه وقيادته، وفد المؤتمر القومي العربي، في زيارة نظام الأسد، أصحاب منظور حقوقي، بمعنى أنه قاصر، لا يرى الصورة كاملة (الوضع المركّب والمعقّد الذي أشار إليه سابقا). ورغم أنه لا مساحة كافية للنقاش هنا، والمقارنة بين منظور الثورة والمنظور الحقوقي، في جوانب الارتباط والاختلافات، إلا أن عدة حقائق تظلّ باقية، منها أن الثورة سعيٌ إلى تغيير جذري، حتى ولو كانت الخطوات إصلاحية، وبين قواعدها المستقرّة والمبدئية، الانحياز المطلق للحقّ والعدل، ودعم كل الثوريين، عربيا من المحيط إلى الخليج، وأيضا وحدة مواقف الثوريين، دعنا نقول، بلغة القوميين، تحرير الإنسان العربي من قوى القهر والاستغلال والاستبداد، لا الوقوف بجانب من يقهره. ولكن الاصطفاف مع الثورة المضادّة بدعم نظم ديكتاتورية ليس موقفا عروبيا، وإذا أصبحت المسألة كذلك، في الخطاب والكليشيه، أو القياس الشكلي، فإن أبوظبي تصبح من الثوريين العروبيين المناهضين لقوى الهيمنة الإسرائيلية والأميركية، لأنها أول من فتح باب تطبيع الحكومات العربية مع سورية الأسد، ودعمته وساهمت في إعادة العلاقات العربية معه. وهي، في الوقت نفسه، صاحبة الدعاية الأكثر فجاجةً للتطبيع مع إسرائيل، بل والتحالف معها من دون إنكار.

استقبل بشّار ضيوفه "القوميين" العرب، وهو الذي أنجز مهمّة تدمير البلاد، وأجرم في حق شعبٍ دفع ثمنا غاليا للحرية وتكالب عليه الجميع، وخلّف بلدا أصبح مقطّعا ومقسّما يواجه مأساةً كبرى، بينما يسوّقه أولئك رمزا للانتصار والمقاومة. وهذا الإجرام سابق على عسكرة الثورة، ومنذ أشهرها الأولى، فبراير/ شباط – إبريل/ نيسان 2011، حيث كان جنون النظام واضحا يستهدف الأطفال والنساء لإخافة المجتمع ككل.

كل الطغاة يجلبون الغزاة، يكمل بشّار الأسد ممارسات سابقيه ومصائرهم، صدّام حسين وحافظ الأسد ومعمّر القذافي...

عموما، يمكن الاختلاف على توصيف مراحل الثورة السورية، ولكن غير المختلف عليه أن بشّار الأسد مجرم حرب، والجرائم لا تسقُط بالتقادم، والمظالم لا لها نهاية إلا بجبر الضرر، أما مساندته فهي تشكّل نقيضا للثورة وإهدارا للحقوق، ويتجاوز تبريرُها سوء التقدير أو الضغوط المحيطة، بما فيها وضع الثورات ونتائجها، أو حالة التشتّت والتفسّخ في بلدانٍ عربية، يسعى المؤتمر القومي، بحسن نيّة، إلى تشجيع الحوار بين السلطات والمعارضة فيها. وبين نتائج متوقّعة في المشهد أن الوقوف بجانب بشّار الأسد يخدم آليات القمع. وهذا ليس رأيا منفردا، سبق وقاله سوريون وقوميون عرفوا السجون رغم خطابهم ورؤيتهم للصراع العربي الإسرائيلي، الذى يتقاطع مع رؤية الصفّ نفسه الذي يرى مساندة بشّار ضرورية حاليا.

ليس هناك أسعد من تلك اللحظات لدى المستبدّين أن يجدوا المساندة من ثوريين حاليين أو سابقين أو محللين متحذلقين يحاولون عقلنة الموقف، ويطرحون أسئلة عن البدائل، غير مساندة بشار لوقف تقسيم سورية، ويرهبون المختلفين معهم قائلين: هل تجب مخاصمة نظام الأسد والوقوف بجانب مليشيات إرهابية واحتلال صهيوأميركي، وكأن هؤلاء طُلبت منهم مساندة الإرهابيين، بعد أن أنهوا أعمالهم الثورية والإصلاحية، وتأملاتهم في مصائر شعوب العالم وسورية. يعيد هؤلاء مزاعم الطاغية، إنه ليس للديكتاتور بديل غير الاستمرار في بناء الوطن وحماية الأمة من الغزو الفكري والثقافي، كما يفتعل بشار الأسد التفلسف في لقائه مع ضيوفه من وفد المؤتمر القومي، وهم ينتصرون بمقاومته الغزو الأميركي الصهيوني وصموده الذى أفضى إلى الانتصار!

يقول مشهد اللقاء أيضا إن المستبدّين كانوا على حق، والقتل والسجن والقمع وسياسات الإفقار مبرّرة، كانت ضروريةً أيضا في رواية أخرى لحماية الوطن. إذن، لم يكن للثورات التي انتهت أساس منطقي حين تفجرت، لأنها ببساطة كانت مؤامرة، يجب وقفها، والتصدّي لها مستقبلا. ما حدث لن يتكرّر، وهذا لسان كل ديكتاتور، ولا أفق للثورة طريقا للتغيير.

 ليس هناك أسعد من تلك اللحظات لدى المستبدّين أن يجدوا المساندة من ثوريين حاليين أو سابقين أو محللين متحذلقين يحاولون عقلنة الموقف

تصبح سورية هي الأسد، بمنطق الشبّيحة الذين رفعوا شعار "الأسد أو نحرق البلد" وبمنطق ثوريين وإصلاحيين يصطفّون مع الأسد احتفالا بالانتصار على مخطّطات تستهدف السيادة وتعمل على التقسيم، وكأن ليست هناك خمس دول تتقاسم سورية فعليا، وحتى نظام الأسد ذاته رهين وتابع، وأبعد ما يكون عن مزاولة السيادة في بلده.

ليست القصة مستحدثة، كل الطغاة يجلبون الغزاة، يكمل بشّار الأسد ممارسات سابقيه ومصائرهم، صدّام حسين وحافظ الأسد ومعمّر القذافي (مثلا)، وبدرجة أكثر رعونة. ويعطي الفرصة لطغاة آخرين فاشلين لكي يبدوا أقلّ في الدرجة رحماء، عندما يقولون "أحسن ما نكون زي سورية والعراق". لم نقتلكم بالقنابل والطائرات والأسلحة الكيماوية، ما زلنا نحاكمكم بالقانون . وقد استُخدمت سورية عربيا، من أجل إخافة الناس من الثورة، ومخاطر تقسيم البلدان. هدفت الشعارات، أولا، إلى التخويف، وبلغة قومية، إلى تعطيل تحرير الإنسان العربي من الطغاة والفقر والاستبداد، لتنتج البلاد ما يكفيها وتتّخذ الشعوب خيارات عادلة ومنصفة وحرّة أيضا".

درس سورية، الذي يتحاشاه إعلام المستبدّين وتدعمه زيارة بشّار الأسد، هو كيف نقتل ثورة، ونقسّم بلدا ونجذب قوى خارجية، لأن الديكتاتور الذي يقود جيشا بعد أن انقسم وتقلص عددُه، وأصبح أقرب إلى مجموعات حماية مسلّحة طائفية الطابع، يريد أن يستمرّ في الحكم. أخيرا، تأتي زيارة وفد المؤتمر القومي العربي بقيادة حمدين صبّاحي في سياق أزمات شعوب عربية، ليس الخلاص فيها مساندة الديكتاتور ولا العشم في أمثاله، وليس لدى الشعوب سوى أن تتحرّر فعليا، وتنتصر على قوى الاستغلال والإفقار والقمع، وتستعيد زمام المبادرة بمعزلٍ عن وجوه سلطوية، بل وبنفي وجودها هي وسياسات طبقتها. ليس هناك بديل عن ذلك سوى الفوضى من تراكم مأساةٍ أحدثتها سيطرة عشر سنوات من ثورة مضادّة شديدة الشراسة والقسوة.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".