عندما يغضب زيلينسكي من كيسنجر

عندما يغضب زيلينسكي من كيسنجر

28 مايو 2022
+ الخط -

تحتاج متابعتك تصريحات الرئيس الأوكراني، فلوديمير زيلينسكي، وخطبه، إلى أن تكون في إجازة تفرّغٍ لها، فالرجل يتكلم كل يوم، ويثرثر غالبا كيفما اتفق. وهذا هو لا يفوّت ما أفضى به هنري كيسنجر، في منتدى دافوس، بالفيديو قبل أيام، من دون أن يعقّب عليه، بغضبٍ مشهود. وإذا كان وزير الخارجية الأميركي العتيق قد اقترح، في المنتدى، أن تتخلّى أوكرانيا عن جزءٍ من إقليم الدونباس وجزيرة القرم لروسيا، فإنه كان، في مقابلةٍ مع "فايننشال تايمز"، قد قال إن الرئيس الروسي، بوتين، أخطأ في تقدير الموقف الذي واجهه بعد شنّه الحرب على أوكرانيا، وأخطأ في تقدير قدرات بلاده، وهو الذي يقيم فيه نوعٌ من "الإيمان الصوفي" في التاريخ الروسي، ويشعُر بالإهانة والتهديد. غير أن كيسنجر استرسل إنه، على الرغم من هذا، لم يتوقع هجوما بحجم الاستيلاء على دولةٍ معترفٍ بها. لم يكترث زيلينسكي بدلو كيسنجر للصحيفة البريطانية قبل أزيد من أسبوعين، ربما لأنه يجده من تحصيل الحاصل، على غير ما نصح به السياسي العريق في المنتدى العالمي، مفاوضات سلامٍ بين روسيا وأوكرانيا تهدف إلى إنشاء حدودٍ في دونباس كما كانت عشية الغزو الروسي.

ليس من "دالّةٍ" لكيسنجر (أكمل أمس عامه التاسع والتسعين) على إدارة الرئيس بايدن، وعلى الاتحاد الأوروبي، فيكون له تأثير عليهما، يجعل كلامَه مقلقا لزيلينسكي، فيبدو هذا في الغضب الذي بدا عليه، وهو يرمي الوزير الأميركي العتيد بأنه من "الماضي السحيق"، ويذكّره بأننا في العام 2022، ولسنا في 1938 عندما وقّعت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا اتفاقيةً مع ألمانيا في ميونخ، منحت هتلر أراضٍ في تشيكوسلوفاكيا، لإقناعه بالتوقف عن مواصلة التوسّع. تستحسن منتدياتٌ في أميركا وأوروبا (والصين أيضا)، وصحفٌ عريقة، استضافة هذا الرجل القديم، ليقول ما لديه في غير شأن (كورونا مثلا)، من باب تعريف الجمهور العام بآراء خبراء وأهل سياسةٍ وتجارب، ومشاهير ونجوم، وكيسنجر في مقدّمة هؤلاء، وفي إطلالاته، ولو بعكّاز، أو على كرسيٍّ متحرّكٍ منذ نحو عامين، وعلى بدانةٍ ظاهرةٍ يزيدها قِصر قامته مشهديةً خاصّة، ما يوحي باستدعاءٍ فلكلوري، أو بتوسّل تنويعٍ ما في منصّات الكلام ومنابره بين أجيالٍ وأجيال، فيحضُر تسعينيٌّ عجوزٌ اسمُه كيسنجر إلى جانب أربعينيين، يخوضون، جميعهم، في أوكرانيا وغيرها. وهذا من وُصف بأنه من ثعالب السياسة الأميركية في القرن العشرين لا يتوقف، منذ سنوات، عن التحذير من مواجهاتٍ بين الولايات المتحدة والصين، ومن حربٍ باردةٍ من الأنسب تفاديها. وقد سمعوا منه مثل هذا القول في بكين، في منتدىً استضافَه (بشخصه وليس بالفيديو) قبل ثلاث سنوات. ويكرّر، في شأن العلاقة الأميركية الصينية، قوله ما يعاكس الذي يُعايَن في أداء إدارة بايدن في تعاطيها مع "تحدّي" الصين، وقد قال مرّة إن إنجازات هذا البلد "لا تصدّق".

إذن، ليس من المقدّر أن تلقى "أطروحة" كيسنجر المستجدّة بشأن مخاطر هزيمةٍ مذلّةٍ لروسيا في أوكرانيا على أوروبا، ولا مقترحُه تخلي أوكرانيا عن أراض لروسيا، مجرىً نحو الأخذ بهما، ليس فقط بالقياس على ما يواظِب على قولَه بشأن الصين ولا يُكترَث به، وإنما أيضا لأن رداء الواعظ الحكيم، الناصح المتروّي، والذي يرتديه كيسنجر، منذ سنوات، لا يأتي على قياس أحدٍ في البيت الأبيض، ولا في أيٍّ من دوائر القرار في غير عاصمةٍ أوروبية، سيما بشأن التعاطي مع "صوفية" بوتين تجاه التاريخ الروسي، والتي تبيح له بلْع ما قد يتيسّر من أراضٍ أوكرانية. وهذا السعي النشط، والذي جرى حسمُه تقريبا، إلى انضمام فنلندة والسويد إلى حلف الناتو، واحدٌ من شواهد المضي إلى مدىً أبعد وأبعد في استفزاز روسيا، وإذاقتها حصرما شديدَ الحموضة، تأديبا على الذي تقترفه، وما تزال، في أوكرانيا.

ليقُل أستاذ التاريخ في هارفارد في زمن راحل، والعضو السابق حتى نوفمبر/ تشرين الثاني في مجلس السياسة الدفاعية التابع للبنتاغون، كيسنجر، ما يقول، في دافوس وغيره، عن أوكرانيا وغيرها، وليُربكنا في قياس مسافات الأزمنة بينه لمّا كان يشعل انقلاباتٍ وحروبا ودسائس ويحاول اللعب في خرائط في غير موضع، وما صار إليه رجلا مسنّا يُؤثر الحكمة وحسن الموعظة في إقامة السلم، مع روسيا والصين وغيرهما، ليدهشنا في يقظة ذهنه وهو ماضٍ إلى عامه المائة، وليغضَب منه زيلينسكي في وقتٍ مستقطع، .. وفي الوقت نفسه، ثمّة الجنرالات ورجال المخابرات وأهل القرار، لهم أن يفعلوا ما يرونه أشدّ مضاءً وأصحّ.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.