صمتت دهراً ونطقت درراً

صمتت دهراً ونطقت درراً

08 فبراير 2022
+ الخط -

بعد سكوتٍ طويل، غير مفهوم، قطعت منظمة العفو الدولية، في الفاتح من فبراير/ شباط الجاري، صمتها الثقيل إزاء الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، بإصدار تقرير عن وضع حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، جاء وافياً شافياً، مُحكماً ولا سابق له، قياساً بتقارير أيّ منظمة حقوقية أخرى، استغرق إعداده أربع سنوات من الاستقصاء والتحقّق والمراجعة، الأمر الذي بعث استحساناً بالغاً من الضحايا، وأثار موجة غضبٍ عارمة لدى الأوساط الإسرائيلية التي لم تتورّع عن سوق الاتهامات المبتذلة، بما في ذلك معاداة السامية، ضد المنظمة الحائزة جائزة نوبل، الأمر الذي يجيز لنا تنضيد المثل الشائع "صمت دهراً ونطق كفراً" بعكس معناه ومغزاه: "صمت دهراً ونطق درراً".
والحق أنّ تقرير "أمنستي" الذي يمكن اعتباره مضبطة اتهام مدعّمة بالوثائق المحققة، والأدلة الدامغة، فضلاً عن شهادات الشهود، يستحقّ كل هذا الرضى من الفلسطينيين، وكل ذلك التطيّر الشديد من زبانية آخر وأطول احتلال، لكثرة موضوعاته، وكثافة الضوء الذي سلّطه على الحقائق الموجعة في الضفة والقدس والقطاع، ناهيك عن تسمية الأشياء بأسمائها، سيما سياسة التمييز العنصري المتجذّرة في عموم فلسطين التاريخية، وقانون الدولة اليهودية التمييزي ضد المواطنين العرب، وهذه إضافة نوعية، وغير مسبوقة في التقارير الدولية.
لا يتسع المقام لعرض ما اشتمل عليه التقرير (182 صفحة)، من اتهاماتٍ موثّقةٍ بصور ومقاطع فيديو، وباعترافاتٍ مدوّنةٍ من مصادر إسرائيلية، إذ تضمّن (تجاهله إعلام الدول المطبّعة) حيثياتٍ مروّعة، عن مصادرة الأراضي والممتلكات على نطاق واسع، عن القتل والتهجير القسري وهدم المنازل، عن القيود الصارمة على حرية الحركة والتنقل، وتحدّث عن الحرمان من حقوق الجنسية والمواطنة. وأكد أنّ هذه الممارسات سياسة منهجية، تستبطن نظرة دونية إلى الفلسطينيين أينما وجدوا، بمن فيهم اللاجئون في الشتات، وبيّن أنّ هذه الانتهاكات والجرائم الموصوفة تشكّل مكوّنات نظام يرقي، حسب القانون الدولي، إلى جريمة ضد الإنسانية.
أثمن ما تضمنه هذا التقرير/ الوثيقة، وعنوانه "نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) الإسرائيلي ضد الفلسطينيين"، وشمل فلسطينيي 48 لأول مرة، توقيع "أمنستي" لائحة اتهام معزّزة بالوقائع والقرائن الكفيلة بدمغ "الدولة الديمقراطية الوحيدة" في الشرق الأوسط بارتكاب جريمةٍ ضد الإنسانية، وتشخيصها الحقائق المؤكّدة أن إسرائيل دولة الأبارتهايد الوحيدة، وأنها الوريث الحصري لتركة دولة جنوب أفريقيا السابقة، وهو ما لم تقله "هيومن رايتس ووش" أو "بيتسيلم" أو غيرهما من المنظمات الحقوقية التي كانت تقارب هذا التشخيص عن بُعد بعيد، وتشير إليه بتلعثم شديد.
ليست هذه المطالعة للثناء على تقرير "أمنستي" الفارق، مع أنه يستحقّ الإطراء الطويل، ولا من أجل بيان شجاعة فريق كبير من الحقوقيين والباحثين، رجالاً ونساءً، ممن أنجزوا هذه الوثيقة المرجعية، وإنّما من أجل إثرائه بالنقاش أكثر، والدعوة إلى البناء عليه أداةً كفاحيةً ملائمةً لاستعادة زمام المبادرة، في ظلّ هذه المتغيرات غير المواتية، وتوظيفه سلاحاً جديداً في المعركة الطويلة ضد القمع والتمييز والإفقار والاستيطان، من خلال تكوين لجان كفؤة للمتابعة، ووضع آلياتٍ مناسبةٍ لتفعيله، واجتراح لغة مفهومة لمخاطبة الرأي العام، سيما الأوروبي، وربما رفع دعاوى أمام المحاكم الأميركية، والتوجّه به إلى الأمم المتحدة، ومحكمة الجنايات الدولية، بالاستناد إلى هذه المرافعة الصادرة عن أرفع منظمة حقوقية.
بكلام آخر، فتح التقرير، المُصاغ بحرفية قانونية متقنة، أفقاً جديداً في سماء فلسطينية يكاد سقفها يُطبق على الأرض، وشقّ طريقاً بديلاً، بعدما انسدّت الدروب التقليدية، وأوجد فرصةً نادرةً لتفعيل الهجوم المضادّ، ومواصلة الاشتباك خارج نطاق ملعب القوة العسكرية المجرّدة الذي تبرع فيه إسرائيل. كما أن هذا التقرير المطالب بملاحقة مقترفي جريمة الأبارتهايد، جرّد العدو من مزاعمه الأخلاقية، وأسقط ادّعاءات تفوّقه القيمي، كسر صورته وقوّض سرديته التاريخية، وفكّك خطابه، ومهّد الأرضية لنزع شرعية دولةٍ نشأت، منذ قيامها، على أسسٍ عنصريةٍ منبوذة.
تبقى ضرورة القول إنّ هذا الإنجاز النوعي تحقق بفضل الرشد السياسي والنضج المؤسّسي، ناهيك عما تسمّيه إسرائيل "الإرهاب الدبلوماسي" المستلهم من خطاب الاعتدال والواقعية الثورية، إنجاز يُحسب للمنظمات الحقوقية والنضالات الشعبية وفعاليات المجتمع المدني، وليس لأيٍّ من الفصائل الوطنية والإسلامية.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي