سياسي طارئ يُنكر هويته القومية

سياسي طارئ يُنكر هويته القومية

25 ديسمبر 2021

منصور عباس في دعاء بعد الصلاة في منزله في قرية المغار شمال فلسطين (26/3/2021/فرانس برس)

+ الخط -

نالت تصريحات النائب العربي في الكنيست، منصور عبّاس، التي أدلى بها أخيرا عن يهودية الدولة الإسرائيلية، ما تستحقه من رفض وسخط في المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل. وكانت وسائل إعلام إسرائيلية قد نقلت عن عبّاس، الذي يقود القائمة العربية الموحدة (أربعة مقاعد)، قوله "إن إسرائيل دولة يهودية وستبقى كذلك .. الشعب اليهودي قرّر أن يقيم دولة يهودية. هكذا وُلدت وهكذا ستبقى". وقد اعتُبر هذا التصريح، وعن حق، يزكّي الرواية الإسرائيلية المزيفة عن حق تقرير المصير للمستوطنين اليهود في فلسطين، مع تجاهل اقتلاع شعب فلسطين من أرضه التاريخية وحق اللاجئين بالعودة، وإحلال مجتمع مستوطنين محله.
وكان عبّاس قد خرج بقائمته من ائتلاف القائمة المشتركة، وخاض الانتخابات بصورة منفردة في الانتخابات التي جرت في مارس/ آذار الماضي. وقد شارك في دعم الائتلاف الحكومي بزعامة نفتالي بينت، الذي حل محل بنيامين نتنياهو على رأس حكومة الاحتلال الإسرائيلي.
وتناضل الحركة الوطنية في الداخل للاعتراف بها وبمليون و800 ألف نسمة من فلسطينيي الداخل باعتبارهم أقلية قومية ذات حقوق قومية في أرضها. ومن شأن إضفاء الصفة اليهودية على دولة إسرائيل واعتبارها "دولة الشعب اليهودي" أن يُحرم غير اليهود فيها (وهم بداهةً العرب أبناء البلاد وأصحاب الأرض بمن فيهم منصور عبّاس نفسه)، من الحقوق المدنية والسياسية، وأن يتم التعامل معهم كأصحاب مركز قانوني متدنٍ. وكعادته، فسّر عبّاس، وهو طبيب أسنان ويمثل "الحركة الإسلامية الجنوبية"، انزلاقه نحو هذا الموقف بالقول إنه "واقعي ويرى الواقع كما هو"، غير أنه يستسلم للأمر الواقع، ويطمح إلى الحصول على منافع "ميزانيات لمجالس محلية عربية" مقابل التخلي عن الحقوق القومية.

الفضل في الربط الوثيق بين الحقوق المدنية والحقوق القومية لفلسطينيي الداخل يرجع لحزب التجمّع الوطني الديمقراطي بقيادة عزمي بشارة

ويرجع لحزب التجمع الوطني الديمقراطي الذي نشأ في العام 1996، بقيادة الأكاديمي والسياسي عزمي بشارة، الفضل في إعلاء شأن الربط الوثيق بين الحقوق المدنية والحقوق القومية لفلسطينيي الداخل، فيما كانت الحركة الوطنية آنذاك تنقسم بين اتجاهاتٍ تكافح من أجل انتزاع الحقوق المدنية، واتجاهات أخرى يتمحور خطابها حول الحقوق القومية دون غيرها. وقد أخذ مطلب الجمع بين الحقوق الحياتية والحقوق الوطنية يتكرّس شيئا فشيئا، حتى أصبح هو الخطاب الوطني المقبول والمسؤول والمتفق عليه بين القوى السياسية والاجتماعية النشطة. وفي واقع الأمر، انشقاق منصور وقائمته وحركته عن القائمة المشتركة التي تجمع الأحزاب العربية، إنما كان يمهد لهذا الارتداد بادّعاء التركيز على القضايا "الحارقة"، مثل البطالة وتفشّي الجريمة في المجتمع العربي، وتقلص مخطّطات التنظيم للبلدات العربية وعرقلة إقامة مشاريع اقتصادية منتجة، وبالذات مشاريع صناعية في المدن والبلدات العربية.
ويرى ناشطون في الداخل أن نكوص عبّاس واقترابه المتزايد من السياسات الإسرائيلية، يمثل تساوقا مع مشاريع تفكيك الحركة الوطنية وإضعاف الحياة السياسية، عبر شقّ الصفوف وفرز القوى السياسية والاجتماعية بين معتدل ومتطرّف. وكانت السلطات قد حظرت نشاط الحركة الإسلامية الشمالية، بقيادة الشيخ رائد صلاح (خرج حديثا من معتقله)، والذي عُرف بتسيير حملات مناصرة للمسجد الأقصى، مع تضييقات على "التجمّع الوطني الديمقراطي" واستجواب قياداته وأعضائه باتهامات ملفقة، وحتى التهديد بحظر نشاطه.

ما شهده العالم العربي خلال العامين الأخيرين من اندفاع إلى تطبيع ساخن وجامح مع الدولة الصهيونية، ساهم في تضخم الشعور بالثقة لدى أركان الدولة الصهيونية

وبنظرة سريعة إلى واقع الحياة السياسية للعرب الفلسطينيين في الداخل، يتبيّن أنه، إلى جانب الحركة الوطنية التي تعبّر عنها لجنة المتابعة العربية، وهي الإطار الجامع والتنسيقي الأعلى، فقد برز على امتداد العقود السبعة الماضية نشطاء وطامحون انضووا في أحزاب صهيونية، مثل حزب العمل وتكتل الليكود وحزب ميرتس، بل إن بعضهم لم يتوان عن السير في ركاب أحزاب صهيونية دينية متطرفة وترويج حملاتها الانتخابية، وذلك على أرضية ادّعاء السعي إلى معالجة المشكلات الحياتية الضاغطة للجمهور العربي، وهو الادّعاء نفسُه الذي يرفع منصور عبّاس لواءه في تسويغ التحاقه بالائتلاف اليميني الحاكم. وعليه، لا يأتي الرجل بجديدٍ على تراث الحياة السياسية، وكل ما في الأمر أنه ينكفئ إلى الوراء.. إلى اتجاهاتٍ أخذ الشعب ينفضّ عنها، بعد بروز اتجاهاتٍ وطنيةٍ أكثر تمثيلا وأقرب إلى توجهات المجتمع العربي في الجمع بين الكرامة اليومية (فرص العمل والتطوير الاقتصادي والأمان الاجتماعي) والكرامة القومية.
وليست تلك هي المقدّمات الوحيدة لارتداد الرجل وحركته وقائمته، فبالنظر إلى البيئة السياسية المحيطة وذات التأثير، فإن ما شهده العالم العربي خلال العامين الأخيرين من اندفاع إلى تطبيع ساخن وجامح مع الدولة الصهيونية، ومن تراجع في مكانة القضية الفلسطينية لدى أوساط عربية حاكمة، قد ساهم في تضخم الشعور بالثقة لدى أركان الدولة الصهيونية، كما أثار لدى بعضهم، ومنهم منصور عبّاس، الشعور بأهمية التكيّف مع هذه التحولات، جنباً إلى جنب مع الشعور بـ"لاجدوى" معاكسة التيار، و"عبث" التمسّك بمطالب قوميةٍ ينكرها الواقع الإسرائيلي إنكاراً تاماً، ويعمل على استئصالها وسدّ الطرق أمامها، عبر ترسانةٍ ضخمةٍ من إجراءات السيطرة والقدرات اللوجستية. علماً أن التمسّك بسائر الحقوق هو الذي رفع من المكانة السياسية لعرب الداخل، وجعلهم رقما صعبا داخل المعادلات السياسية، خلافا لما كان عليه الحال قبل نحو ثلاثة عقود وأكثر، حين كانت الحركة الوطنية تفتقد استقلاليتها كحركة قومية تعبّر عن أقلية قومية كبيرة تضم أبناء الأرض الأصليين. ومن المفارقات أن منصور عباس قد استفاد من ذلك المدّ، حين نشط في البداية، هو وحركته الجنوبية، ضمن القائمة المشتركة، وتعرّف إليه الجمهور باعتباره آنذاك شريكاً في ائتلاف وطني، قبل أن تعصف به أهواء شخصية وتقديرات ذاتية دفعته إلى الانشقاق والتقرّب من المؤسسة الإسرائيلية الرسمية.

الخطاب السياسي لمنظمة التحرير وسائر الفصائل بالكاد يرى أبناء فلسطين في أرض العام 1948 جزءا من الشعب الفلسطيني ومن مشروعه الوطني

يضاف إلى ما تقدّم، واقع الانفصال بين جماهير الداخل والرازحين تحت الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة، وغياب مشروع وطني عام يجمع بين الكتل الثلاث على أرض فلسطين التاريخية، وهو ما باتت تطالب به قوى وطنية من عرب العام 1948، وقد ندّدت السلطة الفلسطينية، كما حركتا فتح وحماس، بتصريحات منصور عبّاس التي تمنح تزكية لقانون القومية الصهيوني الذي ينفي وجود الأقلية العربية الفلسطينية وحقوقها في أرضها، علما أن الخطاب السياسي لمنظمة التحرير وسائر الفصائل بالكاد يرى أبناء فلسطين في أرض العام 1948 جزءا من الشعب الفلسطيني ومن مشروعه الوطني. هكذا، وعلى خلفية الشعور بأن فلسطينيي الداخل متروكون وشبه منسيين، فإن منصور عبّاس ومن لفّ لفّه يستثمرون هذا الشعور بالسعي إلى الحصول على الفتات من الدولة الصهيونية لقاء التغاضي عن الحقوق القومية والهوية الوطنية.
وفي الوقت الذي رحبت فيه أوساط إسرائيلية بهذه المواقف، من المنتظر أن تثير المزيد من التفاعلات في المجتمع العربي، وأن تدفع إلى عزلة سياسية لهذا الرجل وقائمته وحركته.