ساعة إيران البطيئة

ساعة إيران البطيئة

27 سبتمبر 2021
+ الخط -

معروفٌ عن عدد كبير من الإيرانيين الاعتداد بالنفس إلى حد الغرور، والصبر والجَلد والعمل من أجل المستقبل غير المنظور. وهي سماتٌ ورثها الشعب الإيراني من الشخصية الفارسية، قبل أن تغذّيها المفاهيم والقناعات الشيعية في المجتمع الإيراني المعاصر، خصوصاً بعد ثورة 1979 التي أطاحت الشاه، وفتحت الباب أمام حكم "آيات الله"، فأضافت سماتٍ لا تقل أهمية مثل البراغماتية والباطنية "التقية".
وطوال العقود الأربعة الماضية، كانت هذه السمات حاضرةً، وتتعمّق في السياسة الخارجية الإيرانية على وجه الخصوص. وإن كان الخميني بدأ حُكمه بقدرٍ من الاندفاع، فراح يسعى إلى تصدير الثورة، وتعميم نموذج الحكم الديني. ولكن ما إن استتب الأمر لنظام الملالي، ثم انتهت الحرب مع العراق، إلا وبدأت طهران تمارس بإمعان البراغماتية والصبر والحسابات الدقيقة المدروسة، تماماً مثل النسج اليدوي البطيء للسجاد الإيراني.
وتمثّل التطورات الحالية في سياسات إيران وتحرّكاتها الخارجية تجسيداً دقيقاً لتلك السمات التي ترسّخت بمرور الزمن، فمنذ وصول جو بايدن رئيسا إلى البيت الأبيض، تباشر طهران لعبة عضّ الأصابع بمهارة وخبرة طويلة. بدءاً من التصعيد ورفع سقف التفاوض مسبقاً، عبر خطوات مباشرة تشمل عمليات استهدافٍ للقوات والمصالح الأميركية في العراق. وأخرى غير مباشرة، عبر إثارة التوتر والاضطراب في مياه الخليج والبحر الأحمر واستفزاز إسرائيل ودول المنطقة الحليفة لواشنطن.
لم يكن ذلك السلوك الجريء من إيران ينم عن شجاعة أو قدرة على معاقبة أميركا وسحق قوى "الاستكبار" كما يردّد خامنئي ورجاله دائماً، فقد استكانت إيران أمام الضغوط الأميركية، ولم تحرك ساكناً لمواجهة العقوبات القاسية التي فرضها ترامب مجدّداً. وطوال ولاية ترامب في البيت الأبيض، لم تردّ طهران على استفزازاته، وحرصت على احتواء اندفاعاته، وتحمّل سياسة "الضغط الأقصى" التي حكمت مواقفه تجاهها. ثم شرعت هي لاحقاً في تطبيق السياسة نفسها، ولكن ضد بايدن الأقل عدوانية واندفاعاً من سلفه. ليتكشف وجه آخر للسياسة الإيرانية، وهو المعاملة وفقاً لمعيار القوة، وليس المعاملة بالمثل كما تدّعي طهران دائماً. أو حسب تعبير المصريين حين يريدون وصف شخصٍ ما بالجبن أو الخسّة، فيقولون إنه "يخاف ولا يختشي"، فقد بدأت إيران المفاوضات النووية الجديدة مع واشنطن في فيينا، بتصدير خطابٍ مفاده بأن واشنطن هي المطالبة بالعودة إلى الاتفاق، وبالتالي عليها تقديم التنازلات، وليس مطالبة إيران بها. وبعد إجراء الانتخابات الرئاسية الإيرانية، انتقلت طهران إلى مرحلة أخرى، التشدّد المسبق، واتخاذ إجراءات معرقلة، منها تعطيل مهام مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ووضع شروط مسبقة. وذلك كله على خلفية أن انتخاب إبراهيم رئيسي يعني توسيع هيمنة المحافظين على السياسة الإيرانية وتعميقها.
وبعد أن كانت طهران تتهم إدارة بايدن بالتباطؤ وعدم الجدّية في مباشرة التفاوض، صارت هي التي تتمنّع وتتباطأ أمام إلحاح الأوروبيين عليها. إلى حد الحرص على إحباط التوقعات وتخييب الآمال التي كانت معقودةً على اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، لاستئناف التفاوض بلقاء علني مع الأميركيين.
وفي الأيام الأخيرة، انتقلت طهران إلى مرحلة جديدة، وهي مرحلة التحدي والعنجهية. بتفسير وزير الخارجية الجديد، أمير عبد اللهيان، كلمة "قريباً" إطارا زمنيا لعودة بلاده إلى التفاوض، بأنها تعني الوقت المناسب موضوعياً. وهو تفسير مبهم، ولا يعني شيئاً سوى أن إيران تراوغ به، وتمارس ما اتهمت هي الآخرين به. وبغض النظر عن دلالة ذلك بالنسبة لمصير المفاوضات النووية التي ستُستأنف على الأرجح "قريبا"، الأهم هي الدلالة بالنسبة لطبيعة العقلية الإيرانية التي لا تواجه طرفاً أقوى منها، فلا تتعجّل مكسباً غير مضمون شيئاً، بل تعمل عليه بتؤدة وصبر، حتى يصير تحقيقه مؤكداً. إنه الصبر الاستراتيجي الذي يجعل إيران لا تضع أقدامها إلا في مساحة يتيحها الآخرون لها.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.