دروس جنوب السودان

دروس جنوب السودان

09 يوليو 2021
+ الخط -

تزامن انفصال جنوب السودان قبل عقد مع تصاعد المطالب الانفصالية في جنوب اليمن. يومها كانت النقاشات في عدن وجوارها تتّخذ مناحي عدة، تحضر فيها أكثر الأصوات مغالاةً، فيما لم تغب طروحاتٌ عقلانية. ويومها أيضاً، كان بعضهم يطالب بالالتفات إلى ما يجري في جنوب السودان، وضرورة دراسة الحالة من مختلف جوانبها. لكن هذه الدعوات لم تجد من يُصغي إليها، تحت وطأة تصدّر الشعبويين الخطاب، وخطف الحراك الجنوبي بعيداً عن أهدافه التي انطلق من أجلها. مع ذلك، فإن التوقف عند ما جرى في جنوب السودان بعد مرور عشر سنوات على الانفصال قد يكون مفيداً.

كان جون قرنق يطالب بـ"سودان جديد" موحد بشماله وجنوبه. بوفاته عقب تحطم طائرة مروحية كانت تقلّه عام 2005، انزاح عن القيادة السودانية عبء هذه الرؤية، فالظروف التي تلت وفاته، خصوصاً مع غياب الأجوبة الحاسمة بشأن ما جرى، وما إذا كان اغتيالاً مدبراً أم حادثة، مهّدت لمرحلة وطروحات جديدة. ولذلك لم يكن مستغرباً عندما أجري استفتاء تقرير مصير جنوب السودان في مثل هذا الوقت من عام 2011 بعد مرحلةٍ انتقالية دامت ستة أعوام، أن يختار 99% من السكان الانفصال.

لم يطل الوقت كثيراً، حتى اكتشف مواطنو الدولة الوليدة أن كل ما وُعدوا به من استقرار وانتهاء عقود الاقتتال والحروب والفقر والعوز والاضطهاد ونهب الثروات والتشرّد والنزوح إلى دول الجوار بمجرد الانفصال مجرّد أوهام لا أكثر. لم تكن المشكلة فقط بسبب القضايا العالقة بين جوبا والخرطوم، والتي لم تحل على مدى الفترة الانتقالية وسنوات بعدها، بل تفجّرت الخلافات بين المكوّنات السياسية والعسكرية والإثنية في جنوب السودان. وكأنها دوامة من الموت والاقتتال لا تريد أن تنتهي.

الأزمة الأساسية أن قادة هذه الدولة انقلبوا بعضهم على بعض، وطغت النزعة الإقصائية بتبريراتٍ جديدة هذه المرّة. وأصبح جنوب السودان في حاجةٍ إلى وساطات ومفاوضات بين قادته واتفاق سلام وتقاسم سلطة ونفوذ وازدادت أوضاع السكان تردّياً. كانت هذه النتيجة متوقعة، لا سيما أن تحقيق الانفصال كان هدفاً بحد ذاته، وليس بناء دولة جديدة ديمقراطية ومستقرّة. ولا يمكن توقع نتيجة مغايرة، في حال تكرّر هذا السيناريو، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فالوقائع تبدو هي نفسها في أكثر من بلد، لكنها أكثر وضوحاً في جنوب اليمن. عندما يتم الحديث عن نوايا انفصالية، خصوصاً من كياناتٍ وليدةٍ ومتطرّفة مثل المجلس الانتقالي الجنوبي، دائماً ما يُطرح السؤال عن أي جنوبٍ يتم الحديث؟ ومن لديه القدرة على ادّعاء تمثيل الجنوبيين كأفراد والجنوب كمناطق.

تتنازع الهويات في جنوب اليمن أكثر بكثير من الوضع في شماله. الخلافات المناطقية في اليمن الجنوبي قبل وحدة عام 1990 لم تجلب إلا الويلات، خصوصاً عندما تقترن بتباين مشاريع وولاءات سياسية. عملياً، هذه التركيبة التي لا تزال حاضرة بقوة هي وصفة للخراب. يكفي تذكّر أحداث 1986 داخل البيت الاشتراكي، وما جرّته من مصائب. بل يمكن القول إن كل ما مرّ به الجنوب أولاً، واليمن لاحقاً، مرتبط جذرياً بما حدث في تلك المرحلة. وعلى الرغم من إعلان يومٍ للتصالح والتسامح، فإنه لا تكاد تطفو أي أزمة حتى يستعيد كثر التقسيمات المناطقية الجنوبية. واليوم يبدو الوضع أسوأ بمراحل مما كان عليه في العقد الماضي، إذ تنتشر المليشيات لتكون صاحبة الكلمة العليا، وتختلط ولاءاتُها وتتباين وتنتظر بعضها بعضا لتصفية الحسابات. ولذلك، تجربة جنوب السودان لمن يريد أن يعتبر مليئة بالدروس.

جمانة فرحات
جمانة فرحات
جمانة فرحات
صحافية لبنانية. رئيسة القسم السياسي في "العربي الجديد". عملت في عدة صحف ومواقع ودوريات لبنانية وعربية تعنى بالعلاقات الدولية وشؤون اللاجئين في المنطقة العربية.
جمانة فرحات