حليب السنون وحرب السَنُوس

حليب السنون وحرب السَنُوس

08 اغسطس 2021

(عبد الكريم مجد بيك)

+ الخط -

سألني الشاب السوري الظريف، مصطفى سمعان، الذي تعرفت إليه في مدينة إلمسهورن الألمانية، إنْ كنت أتواصل مع أهل الأدب في ألمانيا. أجبته بالنفي، موضحاً أنني، من ناحية التواصل والدعاية لإنتاجي الأدبي، بايعها، أو كما يقول أهل بلدنا: مطبّل مزمر.. تصور يا مصطفى أفندي، حينما كنتُ في إدلب، قبل أن يجبرنا نظام الأسد على النزوح، عرفت عدداً لا بأس به من الأدباء الأتراك الذين كانوا يزورون صديقي عبد القادر عبدللي، ولكن، خلال بضع السنوات التي أمضيتها في تركيا، لم ألتق أياً منهم، فعبد القادر قاطعَهم لأنهم لم يؤيدوا الثورة السورية، وأنا لا أعرف عناوينهم، ولا أتقن لغتهم، ولم أسع إلى التواصل معه، بل نسيتهم. (لست أدري إن كان عبد القادر، رحمه الله، على حقّ في ذلك أم لا، وعلى كل حال هذا موضوع آخر).

مصطفى سمعان بايعها ومطبّل مزمّر أكثر مني، لذلك لم يهتم لهذه الخبرية، وقال لي، على طريقة صديقي المعرتمصريني أحمد شعيب: علااااك. .. ولئلا آخذ سؤاله على محملٍ سيئ، راح يشرح لي دوافعه، فقال إنني أديب ساخر، وأهل الأدب الألمان، بظنه، لو علموا بوجودي على أراضيهم، فلا بد أن يهتموا، لأن البلاد الأوروبية، وبضمنها ألمانيا، فقيرة بالأدب الساخر. وسأل مصطفى نفسه: لماذا، يا ترى؟ وأجابها: لأن أمور الإنسان هنا، (يا سيدي والحيوان) ماشية مثل الماء في المنحدرات، وإذا طلب المواطن الألماني حليب السنونو يجده مُعَبَّأً، ومغلفاً، ومكتوباً عليه "حُلِبَتْ هذه السنونوات على الطريقة الإسلامية"، ومعروضاً على أرفف السوبرماركتات، أو يمكن أن يشتريه أونلاين، ويصل إلى صحن داره بواسطة شركة أمازون. .. يعني، من الآخر، يا عمّي، هؤلاء الناس إذا أرادوا أن يسخروا، يسخرون ممن؟ وعلى أيش؟

حكيت لمصطفى، بعدما فهمت مرمى كلامه، عن صديقي الراحل محمد نور قَطَّيع، الذي ذهب، في الثمانينات، إلى دكان ابن حارتهم الملقب "الهردشّ"، وقال له: بودي أن أستخرج من عندك، وهي جملة شائعة معناها: أريد أن أشتري من عندك بالدين، والدفع في رأس الشهر، فقال له الهردشّ الذي يتكلم من منخاره: مية السَّلَامة، على حسابك، والله إذا طلبت حليب السنونْ تجده عندي. ضحك مصطفى سمعان إلى درجة القهقهة عندما سمع كلمة "السنون"، وقال لي: نعم، أهل بلدنا يحذفون الحرف الصوتي من آخر الكلمة، فيقولون عن آل الفنري، الفَنَرْ، والدويدري، دويدرْ، والسنونو (سنونْ).. وضرب لي مثلاً بالمرحوم "أبو الزيك" الفقير، المنحوس، الذي ضاقت به الأيام، خلال عقد الثمانينات نفسه، ووصل إلى حافّة التسوّل، وفجأة سمع أن قائد الأمة العربية، العقيد معمر القذافي، فتح مجالاً للعمال العرب أن يسافروا إلى ليبيا، ويشتغلوا، ويحصلوا على النقود، فباع الشيء الوحيد الذي يمتلكه "الموتوسيكل"، ودفع ثمنه لرجلٍ يتاجر بالتأشيرات (بياع فِيَز). وبالفعل، أمن له "فيزا" إلى طرابلس الليبية. وبعدما صار أبو الزيك، ومجموعة من أمثاله العمال الطفرانين، في دمشق، أخبرهم بياع "الفيز" أن قائد الأمة العربية منع دخول العمال العرب إلى الجماهيرية العظمى، ولذلك سنغير الفيزا، ونجعلها سياحية. وبالطبع، وافقوا، فالمهم عندهم أن يسافروا ويقشوا الفلوس.. وعندما دخلوا المطار، بثيابهم الرثّة، أو كما يقول النحويون "بأطمارهم البالية"، ورأى الموظفُ المسؤول جوازات سفرهم وبطاقات الزيارة (الفيز) انفلت بالضحك، وقال لهم: فيزكم سياحية، فما هذه المناظر التي جئتم بها؟ فضحك أبو الزيك، مثله، وقال: نحن سوّاح يا عين عمك، ولكن متنكرين! وعلى كل حال، النكتة ليست هنا. النكتة عندما روى لنا أبو الزيك السالفة قال: جماعة المطار، لمّا شافوا موديلاتنا، أنزلونا من الطائرة البوينغ الفخمة، وأركبونا في طيارة موجودة عندهم من أيام السَنوسْ. (يقصد إدريس السنوسي، أي قبل أن يصبح القذافي قائداً للأمة العربية من المحيط إلى الخليج).

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...