توثيق الثورة المصرية .. الضرورة والإشكالات

توثيق الثورة المصرية .. الضرورة والأهمية والإشكالات

11 مايو 2022

متظاهرون مصريون في ميدان التحرير في القاهرة (4/2/2011/ فرانس برس)

+ الخط -

بعد أحد عشر عاما على ثورة يناير في مصر، تظل هناك مهمات غائبة، ودروس مستخلصة، تتشابك مع حالة الثورة ومصيرها، وضمن المهام توثيق (ودراسة) ما جرى من أحداث الثورة ومراحلها، وما سبقها من مرحلة تحضيرية، ضمن فهم للسياق التاريخي لنضال الشعب المصري. وتأتي أهمية التوثيق اليوم في ظل مخاطر، أبرزها محاولات إيجاد قطيعة مع الثورة، أو نفيها، ومسح أحداثها. وفي السياق، أهملت عملية تدوين الثورة رسميا، وواجهت مبادرات شعبية للتوثيق تحدّيات كبيرة، منها عدم القدرة على تكوين فرق عمل جماعي، وغياب الإمكانات، غير ما مسّ المجال العام من تضييق وتفتّت أصاب القوى السياسية، وضعف وربما غياب هيئات لقوى سياسية قادرة على بذل جهد معرفي ضمنه التوثيق والبحث والدراسة، وقادرة على القيادة الفكرية وإنتاج رؤى تدفع مهام النضال السياسي إلى التحقق، وينظم الصفوف برابط من الوعي، وهي ظاهرةٌ عربية، آخذة في الاتساع، مع عزوف مفكرين وأكاديميين عن الانخراط الحزبي، وتركيزها للحركة وتهميشها الإنتاج الفكري. على جانب آخر، تندُر المشروعات الجماعية، لمراكز أبحاث تهتم بالرصد والتوثيق والدراسة المتعمقة، في ظل غياب متطلبات وموارد بشرية ومادية ضخمة، تحتاجها لإنجاز أعمالٍ جادّة تتناول حدثا بقدر ضخامة ثورة يناير الشعبية وتفرّدها. كما تتطلب مهمة التوثيق قدرا عاليا من الموضوعية، وتسلّح بإرادة وإيمان بالثورة يجعل العمل التراكمي وما فيه من صبر أمرا ممكنا، غير مناخ من الحرية.

تتناول المطالعة أهمية توثيق ثورة يناير، واتجاهات التوثيق، وتردّ على سؤال هل تحتاج ثورة مصر إلى توثيق، بعد أن صدرت مئات الكتب والدراسات، وأنتجت عشرات الأفلام الوثائقية والسينمائية.

أهمية توثيق الثورة

يقصد بتوثيق ثورة 25 يناير المصرية هنا جمع كل المواد والمعلومات الخاصة بأحداث الثورة، وتصنيفها، وفرزها، والتحقق منها، عبر تدوين المعلومات حول سياقاتها، الزمني والجغرافي والاجتماعي، بما فيها مرحلة إرهاصات الثورة ومقدّراتها وشهورها الأولى، وما تلا ذلك من أحداثٍ مثلت مراحل مفصلية في مصيرها.

والثورة المصرية، ولأسباب عديدة، تستحق توثيقا شاملا وجادّا وتحتاجه، لما لها من تأثيرات أعمق من محيطها المصري، سلبا وإيجابا، بحكم التأثير المصري الذي لم ينقطع لدولة مركزية، وتفرّد في سياق محلي بين ثورات سابقة، غير حجم النشاط والحركة والمشاركة في أحداثها، وما رفعته من شعاراتٍ وأهدافٍ ما زال أغلبها لم يتحقق. وبالتالي، يمكن التعاطي مع فرضية أن أثر الثورة لم ينته، حتى وإن انتكست، وأن آفاقها وإمكانات تأثيرها أيضا، كخبرة شعبية، ما زالت في الذاكرة، ومتفاعلة بوصفها حدثا مفصليا، مع الواقع، بحكم أن الأزمات التي فجرتها ما زالت قائمة، وهي إجمالا فعل يستحق التوثيق والتدوين، بما فتحته من مجالاتٍ للحركة والنشاط وطرح قضايا كانت مؤجّلة، وطرح مشكلات حقيقية ما زالت قائمة، على الرغم من اختلاف وجهات النظر في التعاطي معها وطرح حلول لها. عدا عن أن الثورة المصرية تحمل مفتاح إجابات وفهم لانتفاضات مشابهة بحكم التعلم من الخبرات، رغم الإقرار بالفروق والتنوع، فهي مؤثرة في تقدّمها وتعثرها.

تتطلب مهمة التوثيق قدراً عالياً من الموضوعية، وتسلّحاً بإرادة وإيمان بالثورة

أما بشأن سؤال ما إذا كنا ما زلنا في حاجة إلى التوثيق، فإن تعطّل كل المشروعات الرسمية، وضعف المبادرات المستقلة (مع التقدير لها) يجعل مهمة التوثيق فى حاجة للاستكمال، ومع الاعتبار لمسألة التوثيق وطبيعتها، وهو يتطلّب سنوات من العمل، وأحيانا مرور فترة تتكشف خلالها بعض الحقائق وتتضح المواقف، فقد مر على الثورة المصرية عقد، وما زالت الحاجة للتوثيق قائمة، وهو مهمةٌ ليست سهلة، بما تتطلبه من جهد جماعي، وعمل متراكم، يحقق أهدافا عدّة، منها البدء في كتابة تاريخ الثورة عبر شهادة الشهود. وما زالت الحاجة ملحّة إلى التوثيق، وتسجيل أصوات الفاعلين باستخدام مناهج تاريخية وأدوات متنوّعة. وليس بديلا عن التوثيق ما كتبه مفكّرون وعلماء سياسة واجتماع سياسي، من دون سماع أصوات الناس الفاعلين في الثورة وتوثيق ما جرى.

لا تنبع أهمية توثيق الثورة فحسب من بناء سردية الثوريين، وتجسيد (وكتابة) تجربتهم التي مثلت توق ملايين انتفضوا وطالبوا بالعدالة، وتحدّوا في سبيل ذلك السلطة وخرجوا عليها، لا بد أن تكتب الثورة وتوثق أحداثها أيضا في مواجهة سردية الثورة المضادّة التي صوّرتها بأحداث فوضوية ومؤامرة خارجية، والثورة كفعل شعبي جزء من التاريخ الاجتماعي جديرٌ بالتسجيل، سواء حقّقت أهدافها أم لم تحققها، فذلك لا ينفي حدوثها ولا أهميتها، وأنها أسّست لسلطة جديدة، وخلعت رجال حكم من السلطة.

عملية التوثيق صراع اجتماعي على مساحة التاريخ والذاكرة

والتوثيق كمرحلة يوفر المواد والمصادر الأولية لأي دراسة جادّة للثورة، تساهم في مراجعة ما جرى، من خطوات القوى السياسية وتحالفاتها، وتصوّرات قيادات الثورة، والاستجابات الشعبية لدعوات الحشد والتعبئة، والانتصارات التي تحقّقت، وذلك كله يساهم في مراجعة الإنجازات والإخفاقات، والتحدّيات، وتحديدها، ومراجعة الأخطاء. والمراجعة مهمة ثالثة غاية في الأهمية، وفرضية غائبة، وطوق نجاة من أجل أفقٍ لنهوض جديد. وقد كانت حالة تكرار الأخطاء انعكاسا لغياب الحوار والعقلية النقدية، ومراجعة الأخطاء، والارتهان إلى الإجابات الجاهزة، والاتهامات المتبادلة بين قوى الثورة، والتي بدأت منذ سقوط حسني مبارك، وما زالت تظهر، حين تقييم مسار الثورة ومصيرها. وانقسامات وتحالفات كثيرة لم تكن على أساس اجتماعي. وفي السياق، لا يمكن أن يكون للأماني الحالمة بالتغيير ما يستدعي الإنصات، وهي لم تنظر إلى الخلف، لتتعلم من التجربة، وتبحث عن تفسيراتٍ شافيةٍ بشأن انتكاسة الثورة، واستمرار تعثّرها، وتفتّت قواها وعدم تجانسها، رغم القواسم المشتركة التي مثلت حدّا أدنى في ما سبق، والذي لم يكن مصادفة أن يحدُث بشكل متسارع، بعد حالة وحدة قبيل الثورة، والذي ظهر مع تحالفاتٍ تخالف طبيعة المرحلة الثورية، وتتجاهل شروط التحالفات التى يمكن أن تجعل مسار الثورة يحقّق التقدّم.

وعبر التوثيق يمكن، وبالمقارنة وقياس الأثر وتحليل التجربة، اختبار صحّة الشعارات التي كانت تُطرح، ومضمون البرامج (على ضعفها) ومدى ملاءمتها لحركة الشارع. بعد أن تركت قوى الثورة جمهورها تركها الشارع وحيدةً في مواجهة الهزيمة، وكذلك يمكن أن يوضح التوثيق، ويبين مواقف مكونات السلطة وأجهزة الدولة في مراحل الثورة المختلفة، وعلاقات التغيرات التي طرأت عليها في تحالفات القوى السياسية ومدى قربها من السلطة في مراحل مفصلية.

وإجمالا، إذ كان التاريخ نتاج صراع ومصالح طبقية، فإن عملية التوثيق أيضا صراع اجتماعي على مساحة التاريخ والذاكرة، وجهود التوثيق للثورة عملية نضالية، وجزء من بقائها وحضور مطالبها العادلة، وأداة مساعدة للفهم والتحليل والدراسة، بما توفره من مواد أولية ووثائق وبيانات ومعلومات وأدلة، وما قد توفره من صورةٍ غير مجتزأة، يمكن من خلالها استخلاص الدروس، ومعرفة الخط الصاعد للثورة، ومحطّات انكسار مسارها، بما فيها تفتّت القوى الثورية، ودخولها في صراعاتٍ على أساس الهوية والثقافة، وتهميش الأبعاد الطبقية والاجتماعية، ونسيان، في أحيانٍ كثيرة، الصراع الأساسي الذي كان بين السلطة والشعب، حول القضايا الرئيسية، وهو بناء نظام جديد يطبّق سياسات اقتصادية عادلة، ويقيم نظاما ديمقراطيا مدنيا حرّا، ليستعيد المواطنون كرامتهم. والتوثيق ليس وحسب معركة للذاكرة ومقاومة للنسيان، ولكنه أيضا محطّة لرفض الإكراه، وتقديم ما يمكن أن يعيد الثقة في أحلام المصريين ومطالبهم وحقوقهم العادلة.

كما أن توثيق الثورة، يعني حضور السياسة، بوصفها حسب تعريف مارسل بريلو، تتعلق بمعرفة الوقائع والأشخاص، وتخصّ ما يتحصل عليه الإنسان من المعرفة عنهما. كما أن التوثيق شهادة تاريخية للأحداث على فاعلية الشعب، وعلى إجرام الجناة ونيلهم من حقوقه، ووجوب محاسبتهم، حتى ولو أخفيت أحيانا الأدوات.

وجهات نظر ومواقف متعدّدة

تعتبر عملية (مهمة) توثيق الثورة المصرية موقفا سياسيا، وهدفها موضوعيا إجلاء الحقيقة، فيما يريد بعضهم طمس الحقائق لنفي الثورة نفسها، وهناك من يريد توثيقا في حدود، وجزئيا، لتعميم سرديةٍ تخصّه، تخالف الحقيقة عبر اجتزاء المشهد. ويمثل التوثيق أيضا موقفا صراعيا، بين سرديتين وربما طريقين. ويمكن رصد أبرز وجهات النظر بشأن التوثيق، والتي نشرت في سنوات ماضية، تجسّد المواقف العملية وما خلفها. يمثل الاتجاه الأول إصلاحيون منحازون للسلطة، ويتكوّن من طيف أغلبه سياسيون سابقون وإعلاميون وأكاديميون، يرون في توثيق الثورة المصرية ودراستها ضرورة، تساهم في تجاوز نموذج دولة مبارك القديمة، بما فيها من بوليسية، وتعالٍ يضفي صفة القداسة على السلطة، ويفرض السيطرة السياسية، والسيطرة وفرض الاستقرار. ولن تنجح هذه العملية إلا برسم مسارات للإصلاح تعالج أوجه الخلل، ومعرفة ما جرى من أحداث وفهم للمطالب، وكيفية تجاوز نموذج الانتفاضة، إلى نموذج الإصلاح، وبيان قرب السلطة من هموم جمهور مأزوم ومشاغله. وهنا تمكن قراءة الأصوات المطالبة بالتوثيق من خارج صفوف الثورة، والذين يمكن وصفهم، بتعبير غرامشي، بأنهم نخب الطبقات التابعة للسلطة ومثقفوها، وهم يعبّرون عن مصالح طبقاتٍ تريد نوعا من إصلاح ضمن النظام القديم، أي نخبة محافظة، رغم ميلها إلى إصلاح جزئي، وهم فئة خاضعة للمنظومة العامة للسلطة، وتسعى إلى تحرير نفسها وضمان مصالحها، وهذا لن يأتي الا باستقرار نسبي. ومن أجل ذلك، حاولوا لعب دور الوساطة بين الشارع والسلطة، بداية الثورة. بينما من وجهة نظر أصحاب مشروع التغيير الجذري، فإن التوثيق للثورة، بداية من مرحلة التحضير وصولا إلى تفجّرها، وبروز مطالبها وشعاراتها، وطرح برامجها (المحدودة) يكشف مظاهر التعثر والتحدّيات التي واجهت تطور آفاقها، وتحقيق أهدافها، والتوثيق أيضا، عملية ديمقراطية، وجزء من المستقبل. لذا تستحوذ عملية الكتابة عن الثورة، وجهود توثيقها ودراستها، على جزء من اهتمام هذا الاتجاه.

ثمّة من يحاول نفي الثورة ومسح تاريخها من الوجدان قبل صفحات التاريخ الرسمي

وهناك اتجاه ثالث يرفض التوثيق، ويحاول نفي الثورة ومسح تاريخها من الوجدان قبل صفحات التاريخ الرسمي (ما كتب من سطور محدودة). وقام أصحابه بممارسات استهدفت تشويه الثورة، وعقاب كتلٍ من شبابها، في ممارسةٍ تحاول تجاوز لحظة الثورة وتهدّد من صدقها، وهي تمسح أرشيفها الإلكتروني من منصّات القنوات التليفزيونية، وتلغيها من الكتب الدراسية، قبل محاصرة الفاعلين فيها. وللمفارقة هنا، استبدلت المادة 213 من دستور 2012، والخاصة بتوثيق الثورة، بمادة الهيئة الوطنية للإعلام، وهي الجهة المنوط بها تنظيم النشاط الإعلامي من صحافة وتليفزيون.

ويرى اتجاه رابع ضرورة توثيق الثورة بوصفها مؤامرة خارجية، لها سياقها وأطرافها الإقليمية والدولية التي تتعاون مع قوى محلية، وصنعت واستخدمت معولا لهدم البلاد، وإسقاط الدول والجيوش، وتحقيق مزيد من الاختراق للأمن القومي العربي. ويرى هذا الاتجاه في النظم التي سقطت أو تحرّكت ضدها جماهير شعبية، رغم استبدادها، أنها كانت "مقاومة" أو ليست طيعة فى يد الغرب، وأن ثورات "الخريف العربي" نالت من مقدّرات الشعوب ومصالحها، وفرصتها فى الاستقرار والتنمية، ومقاومة عدويْها التاريخيين، أميركا وإسرائيل. وعلى الرغم من ضعفه وخرف مناصريه وتشنجهم ضد الثورة ومداهنة الاستبداد، أخذ هذا الاتجاه في الاتساع بعد مصائر ثورات لم تحقق غايتها. وهو يضم خليطا من أصحاب منطلقات المؤامرة، الناكرين إمكانية أن تحرّر الشعوب نفسها من دون قيادتهم، وفي مواجهة رؤساء مستبدّين، وبينهم أحزاب صنيعة البوليسية، وكتاب مستقطبون من نظم استبدادية حالية وسابقة، باسم القومية والعروبة، وأحيانا الماركسية. والثورات بالنسبة لهم اعتداء خارجي يجب صدّه حاليا، وإنْ حاول بعضُهم التعاطي مع الثورة في بدايتها، ثم عاد إلى سرديته.

هناك من يريد إعادة كتابة تاريخ الثورة ليمجّد السلطة، ويلتصق بمؤسساتها

إذن، ليس للمعادين للثورة موقف واحد من مسألة توثيقها، فهناك من يريد إعادة كتابة تاريخها ليمجّد السلطة، ويلتصق بمؤسساتها، وفي سبيل ذلك يتنكّر للحقائق، وربما ما كتب عن الثورة في يوم من مدح وتمجيد، وهناك من لا يراها ثورة ولا تستحق التوثيق، ويكفي أن تصبح هوجة، أو فورة غضب لجمهورٍ لا يعرف ماذا يريد، أي نزع صفة السياسة عنها في مواجهة محاولات المنتفضين إقرار قواعد للحقوق والواجبات وتطبيقها، ومحاولتهم نزع صفة القداسة عن السلطة، وتحديد أدوارها، وتقابل حالة تشويه ثورة يناير ما سبق مع فصول تاريخية سابقة، كالثورة العرابية، وثورة 1919 وانتفاضة الخبز يناير 1977. أما ثورة يناير فهي متهمة بالتسبّب في تضرّر نهر النيل، حين بني سد النهضة الإثيوبي بالتزامن مع أحداثها، وهي سبب انهيار الاقتصاد، والانفلات الأمني أحيانا وربما الأخلاقي، والعنف، وغيرها من تهم، من دون بيان أسباب وأسانيد لهذه السردية، وفي تناسي أن الثورة وليدة أزمات المجتمع، ومؤشّر إلى مشكلاته ومعاناة أفراده وفئاته الاجتماعية.

إشكالات

في سبيل التوثيق، هناك جهودٌ مقدّرة بذلت، من مراكز أبحاث ودراسات، لكن هناك ملاحظات أولية، منها ندرة في المشروعات الجماعية التي تتسم بالتنسيق والتكامل. وكتبٌ كثيرة صدرت نتاجا لأعمال مجموعة من المؤلفين تفتقد حسّ العمل الجماعي، فيؤثر ذلك على وحدة الموضوعات فيها. كما تندر مشاريع التوثيق التي يكتبها الفاعلون في الثورة، وقيادتها، ونخبها بالمعني الواسع للمفهوم، بمن فيهم نخب عمالية وشبابية وطلابية وحزبية. وكتب الشهادات التي تدخل في إطار التوثيق محدودة، ولم تستند إلى منهج وسياق ودليل عمل.

لا تخلو أعمال التوثيق والكتابة من التوظيف والاستخدام السياسي، فبعض من كتبوا عن الثورة انقلبوا عليها، أو لم يكونوا في صفها أصلا

ثانيا: تتصف مساحات العمل الميداني بالضعف، وهناك أعمالٌ كثيرة لم تعتمد، على الرغم من أنها جماعية، على جهود ميدانية ذات وزن، بما فيها من مقابلاتٍ لم تراع التنوع السياسي والجغرافي والنوعي والطبقي، ولا تتجاوز شهادات أكثر الأعمال تمييزا عشرات المقابلات، وكثير منها يتصف بتضخيم دور تياراتٍ بعينها. ويتصف، كما أعمال فردية، بالمبالغة في الدور، وأحيانا نفي الآخر على أرضيةٍ تنافسيةٍ سياسيةٍ سابقة على الثورة. ولا يخلو الأمر من تأثير التحيز الأيديولوجي أو محدودية الدوائر والأفراد التي أجريت معهم مقابلات، يلحظ فيها نوعا من الانتقائية، والخضوع لمقاييس الظهور الإعلامي. وجرى التركيز على الوجوه المشهورة، والتي وجد بعضها ليُفرض على المشهد، ضمن سياقات التحكم في الإعلام.

ثالثا: يلاحظ نقص في شهادات القيادات الفاعلة في حراك ما قبل الثورة في مصر، خصوصا في المحافظات، والتي شهدت إهمالا في التوثيق، ضمن عدم مراعاة التوازن الجغرافي، وإن اعتمدت بعض أعمال التوثيق على فاعلين من المحافظات، إلا أن معظمهم يسكنون العاصمة، في مفارقةٍ دالةٍ على التركيز على المركز السياسي، وتهميش المحافظات، ومؤشّر على أزمة هجرة الكوادر السياسية في الأقاليم إلى العاصمة، وهي سمةٌ تتشاركها الثورة التونسية.

تعطّل كل المشروعات الرسمية، وضعف المبادرات المستقلة يجعل مهمة التوثيق فى حاجة للاستكمال

رابعا: لا تخلو أعمال التوثيق والكتابة من التوظيف والاستخدام السياسي، فبعض من كتبوا عن الثورة انقلبوا عليها، أو لم يكونوا في صفها أصلا، وإنما استخدموها لحيازة مكان في المشهد. وشهدت كتابات ومحاولات توثيق كثيرة التركيز على تيارات وشخصيات بعينها، لأسبابٍ، منها طبيعة القائمين على مشروعات البحث والتوثيق، والانتماء السياسي الذي أصاب منهجية البحث، أحيانا، وتنازع في التوثيق وإبراز الدور، مع تقدير لتحدّيات التوثيق، وإمكانية الوصول إلى الفاعلين وضعف شبكات الاتصال أحيانا معهم، والغرق في تطوّرات وأحداث يومية متتالية بعد الثورة.

خامسا: صدر سيل من كتب المقالات، طرحت بوصفها توثيقا وتحليلا للثورة، بينما أغلبها صفٌ لمقالات لها مقدّمات وعناوين تجاري الحدث، ولا يجمعها سياق. ولكن يراد وصف أصحابها شاهدين على العصر، وآخرين مطلقي صيحات الانتفاضة وأحيانا قادة لها. ويلحظ أن مشروعات فردية كثيرة سقطت في فخاخ خطرة، منها الهرولة للالتحاق بالحدث، والالتصاق به أحيانا، غير اصطناع للدور، وذاتية واضحة تجعل الأحداث تتمحور حول الشخص. مثلا تفاجأنا بعد انتصار الثورة بأن عشرات من كتّاب وأدباء وعلماء اجتماع وسياسيين توقعوا الثورة وكتبوا عنها قبل اندلاعها. هكذا ادّعوا، من دون أسانيد، أو تقديم براهين لنبوءاتٍ لاحقة على الحدث. وإذ كان ذلك صحيحا، لماذا كان يلتصق بعضهم في السلطة، وأحيانا جزء منها، ومعلوم للباحثين وللدارسين أن من بين من تحدّثوا عن ثورةٍ محتملةٍ في مصر، وتوقعوها قلة، حتى بين من كانوا يحلمون بها.

وأخيرا، تبقى مسألة توثيق الثورة مهمةً ملحةً لم تكتمل، وحقا لجموع الشعب المصري فى كتابة تاريخه، وإحاطة أجيال مقبلة بما جرى من دون اجتزاء أو صورة رومانسية أو تشويه أو مبالغات. وسبق أن أعلنت جهات رسمية وتسابقت في ما بينها على حيازة مهمة التوثيق، لكن مشاريعها ومبادراتها لم تر النور، وانقطعت مع تعثر الثورة. وبالإضافة إلى مشاريع رسمية انتهت مع تحولات دور الدولة، وتبدّل مواقع النفوذ، هناك عدة مبادرات مستقلة، ارتكزت على التوثيق الإلكتروني بشكل خاص. لكن وعلى الرغم من أهميتها عانت تحدّيات عديدة. وكلا النوعين، التوثيق الرسمي المحتجب، أو تجارب التوثيق الإلكترونى والشعبي المستقل وتوثيقهما في حاجة إلى قراءة أخرى.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".