تلك التناقضات الصارخة في مسيرة فرنسا ضد اللاساميّة

تلك التناقضات الصارخة في مسيرة فرنسا ضد اللاساميّة

19 نوفمبر 2023

مشاركون في مسيرة في باريس ضد معاداة السامية (12/11/2023/Getty)

+ الخط -

نظّمت الطبقة السياسية في فرنسا، في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، مسيرة ضدّ اللاسامية، تضمنت، في قراءة سياسية وسيميولوجية خالصة، تناقضاتٍ فضحت النفاق والكيل بمكيالين، فضلاً عن سياق تضامني مع الصهيونية فاق كل التوقعات، بالرغم من ادعاء فرنسا أنّها إنسانية، إذ لم يُلقِ أحد من تلك الطبقة بالاً لكلّ التجاوزات التي ارتكبها الجيش الصهيوني بحقّ فلسطينيي غزّة، خصوصاً الأطفال منهم والنساء. وقد سبقت لحظات سياسية تنظيم تلك المسيرة، انصبّ فيها التساؤل بشأن تناسب مشاركة اليمين المتطرّف فيها، وهو اليمين الذي كانت الشخصية المحورية له، من قبل، زعيم الجبهة الوطنية، سابقاً (التجمُّع الوطني، حالياً)، جان ماري لوبان، قد اتُهم وعاقبه القضاء، مرّات ومرّات، بسبب تصريحاته ومواقفه من المحرقة واليهود بصفة عامة، وهي مواقف وصفت بالمراجعية (Revisonism)، تيار فكري وسياسي بمواقف ترفض الحقائق المؤسسة للسردية الصهيونية الخاصة بالمحرقة وبتأسيس الكيان الصهيوني في فلسطين.

من ناحية ثانية، انتشرت نقاشات على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي استوديوهات بعض القنوات الإخبارية، بشأن مشاركة بعض وجوه اليمين المتطرّف نفسه، على غرار إيريك زيمور المثير للجدل، إذ إنه يهودي، ويعمل على تبرئة بعض القادة التاريخيين للجيش الفرنسي، مثل بيتان، من ترحيل اليهود نحو المحرقة. وعلى الرغم من ذلك كلّه، شارك في المسيرة، وعبّر، بكلّ قوة، عن مواقف تساوى فيها ما تمّ الإطلاق عليه، تاريخياً، المقاومة الفرنسية مع السياسيين والعسكريين الذين تعاونوا مع ألمانيا النازية في أثناء الغزو الألماني لفرنسا، مطلع أربعينيات القرن الماضي، زمن الحرب العالمية الثانية.

يتناسى البعض أنّ العنف الذي يجب التنديد به هو الاحتلال الاستيطاني والجرائم المتواصلة للصُّهيونية في حقّ الفلسطينيين منذ أكثر من 70 عاماً

أمّا اللحظة السياسية الأخرى، فهي غياب اليسار، خصوصاً حزب فرنسا الأبية، وزعيمه ميلونشون، عن المسيرة، بسبب مواقفه من المجازر الصهيونية في غزّة ومساواة الطبقة السياسية الفرنسية بين الضحيّة والجلاّد، فضلاً عن رفض الإعلام فتح النقاش عن تجريم تلك التجاوزات، أو الحديث عن شيء آخر غير الدفاع الشرعي المحتّم، زعماً، أمام الصهاينة رداً على هجمات المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر ووقوع قتلى وأسرى إسرائيليين جرّاءها. وقد فتحت هذه المواقف النار السياسية والإعلامية على "فرنسا الأبية"، إذ جرى اعتبارها ضدّ السامية، وطولب بألا يُحسب الحزب من الطبقة السياسية في فرنسا، بل طالب المغني الفرنسي، اليهودي، أنريكو ماسياس (المولود في قسنطينة في شرق الجزائر)، بالقضاء عليه، بكل ما يتضمّنه هذا المعنى من أبعاد. ورغم رفض الصحافي الذي استقبله تصريحه الداعي إلى القتل، لكنّ هذا المغنّي المثبت عليه، بالوثائق، مشاركته، رفقة مليشيات صهيونية في قتل جزائريين في أثناء الحرب التحريرية (1954-1962)، أصرّ على عباراته، وطالب بمحو اليسار الفرنسي من الوجود بسبب تلك المواقف.

أدّت تلك المواقف المتناقضة الى تشديد التجنيد الأمني للشرطة، للوقوف سدّاً منيعاً بين الفصيلين في مسيرةٍ من المفروض أنها ضدّ اللاسامية من الطبقة السياسية الفرنسية، ذلك أن نوابا من "فرنسا الأبية" أصرّوا على المشاركة، مع الاستمرار في التعبير عن مواقف زعميهم وحزبهم من أحداث غزّة، وخصوصا رفضهم المساواة بين الضّحيّة والجلاّد، وتأكيدهم، مثل الأمين العام للأمم المتّحدة، أنّ أحداث 7 أكتوبر لم تأت من فراغ، بل العنف الذي يجب التنديد به هو الاحتلال الاستيطاني والجرائم المتواصلة للصُّهيونية في حقّ الفلسطينيين منذ أكثر من 70 عاماً.

المعركة ضدّ وهم معاداة السامية غير موجود، والغرض منه تبرير المجازر التي يقترفها الصهاينة في فلسطين

ومن الناحية السيميولوجية، أبرز تحليل أنجزه صانعو محتوى من المندّدين بالصهيونية وجرائمها، على الأقل، للصورة الجماعية لممثلي طبقة سياسية فرنسية متشاحنة، الكم الصارخ من التناقضات، بالرغم من الإصرار على الظهور بمظهر المساند المطلق للكيان الصهيوني، حيث كان هناك يمين ويسار، رؤساء جمهورية سابقون معروف عنهم العداء السياسي العميق (هولاند وساركوزي) ورؤساء حكومات سابقون لديهم طموحات في الرئاسيات المقبلة (2027)، على غرار إدوارد فيليب، وهم شخصياتٌ أرغمتها الظروف على الالتقاء الذي لم يُبرز، من خلاله، إلّا الرغبة للظهور السياسي المساند للكيان، من دون البعد المتعاطف العميق أو المؤمن بالقضية حقيقة.

الصورة السيميولوجية الأخرى التي برزت من خلال هذه المسيرة، محاولة كل طرف المغالاة في التصريحات والظهور المسرحي (صور، فيديوهات، شعارات)، وهو ما أعطى الانطباع بأن تلك الطبقة لم تأت للسير في مسيرة ضد اللاسامية، بل لإطلاق بعضهم شعارات سياسية، بعضها ضدّ آخرين، أو إنهاء معارك سياسية، تحضيرا للمواعيد الانتخابية المقبلة (الانتخابات الأوروبية القريبة)، وقد ظهر ذلك من محاولة عقد ندوات صحافية قبل نهاية المسيرة، خوفاً من تفويت الفرصة لاحتمال أن تُفسد الأجواء على خلفية مشاركة اليمين المتطرف أو انخراط أطراف معادية للمسيرة، زعماً، كما حاول بعضهم الادعاء به.

تؤكّد تلك المواقف، عند تحليلها بالمقاربة السّياسية والسيميولوجية، أنّ المعركة ضدّ وهم معاداة السامية غير موجود، والغرض منه تبرير المجازر التي يقترفها الصهاينة في فلسطين. بل يبرز، في الإعلام، ارتباك الطبقة السياسية الفرنسية في صنع المشهد المساند للكيان الصهيوني في سرديّته للجريمة والإبادة الجماعية/ التطهير العرقي، وهو تبرير بسبب تصاعد موجة الضّغط، من ناحية، لتوصيف تلك الجرائم بأنّها ضدّ الإنسانية، وحاملة توصيفات أبعد وأكبر (الإبادة الجماعية والتطهير العرقي)، وبأنّها قد تصل إلى رفع قضايا ضدّ الكيان أمام محكمة الجنايات الدولية. ومن ناحية أخرى، بسبب تصاعد الضغط الدُّولي لتوقيف تلك الحرب غير المتكافئة وإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزّة، فضلاً عن الرفض الأميركي لترحيل سكان غزّة أو إنهاء الحرب بالاستيلاء، مرّة أخرى، من الصهاينة، على غزّة.

انتصرت القضيّة الفلسطينية إعلاميا في معركة للصّوت والصُّورة وأضحت في قيمة معركة السلاح وحجمها

بالنتيجة، هي معركة أخرى انتصرت فيها القضيّة الفلسطينية إعلاميا في معركة للصّوت والصُّورة وأضحت في قيمة معركة السلاح وحجمها، ويعادل الانتصار فيها، استراتيجيا، الحصول على مكاسب قيمية في معركةٍ حاول الغرب إبراز أنها معركة حضارية ضد "حيوانات بشرية"، يمكن شرعنة قتلهم، إبادتهم ومنع الأكل والشرب عنهم، كما يجري في غزّة التي دخلت، في الساعات الأخيرة، مرحلة تنذر بالمجاعة، نفاد الوقود وإخراج المشافي والمنشآت الصحية عن الخدمة، بل وتجرى مهاجمتها لتبرير الادّعاء بأن استهدافها، منذ اليوم الأوّل، كان بسبب إيوائها قواعد إطلاق الصواريخ، وفي أقبيتها يعمل القادة العسكريون والسياسيون لحركة حماس.

المعركة الأخرى هي تلك المعركة الأخلاقية التي أبرزت، حقّا، بُعد الغرب عن القيم المعيارية التّي ما فتئت نخب كثيرة فيه تتّهمنا بأنّنا ممتنعون عنها، وبأنّ جينات خلايانا إرهابية ووحشية، في حين أنّهم يناصرون الوحوش والمجرمين، كما يدافعون عن الإرهاب الصهيوني ويشرعنون جرائمهم.

ختاماً، تساءل أحدُهم عن ارتفاع عدد الحوادث، في فرنسا، ضدّ الطائفة اليهودية منذ أحداث غزّة، أين وقعت وما هي إثباتاتها؟ وهو ما لم تصل أيّة قناة أو وسيلة إعلام إلى إثباته صوتاً وصورة، ما ينبئ بأن الدعاية التي قامت على أساسها كل المسيرة ضد اللاسامية هي أصلاً ادعاءات لا أساس لها من الصحة، الغاية منها تعميق مواقف المساندة للكيان الصهيوني، وتبرير جرائمه ضد أهلنا في فلسطين، كلها، وتلك قصة أخرى.