تتراجع الديمقراطية في الهند فتتقدّم حظوظ إسرائيل
بسرعة فائقة، وعلى وتيرة الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين، تنتشر "نظرية" تقول إن الغرب الديمقراطي مؤيد لإسرائيل، إذاً، هذا الغرب صاحب قيم بالية، وأولى هذه القيم الديمقراطية. قليلون من مردِّدي هذا النوع المتجدّد للكراهية للغرب يشيرون إلى أعطابٍ أخرى في أنظمتها، مثل الاستغلال الرأسمالي، أو الفردية المقدّسة، أو فقر الحياة الروحية والاجتماعية... إلخ. والغالبية العظمى تصبّ على الديمقراطية وحسب. مصادفة سياق أم ماكينة بروباغندا؟ لا نعلم تماماً. لكن الواضح أنها رائجة وتبدو كأنها في طريقها إلى التأصّل بيننا.
نظرية أخرى قديمة، لكنها انتعشت منذ بداية "طوفان الأقصى". وحاملوها من أنصار إسرائيل الخالصين. بموجبها، كل من يدعم الفلسطينيين أو ينتقد إسرائيل هو لاسامي، كاره لليهود، يبغضهم ويريد إبادتهم.
لكنّ الهند تكذّب النظريتين، وقد لا تكون استثناء، لكنها دولة صاعدة. هي اليوم خامس اقتصاد عالمي. ومرشّحة لأن تصبح الثالثة عام 2030: نمو اقتصادي، ناتج إجمالي محلي، شباب وسكان، الأعلى في العالم (مليار وأربعمائة مليون)، دياسبورا غنية وسخية، هي الأكبر في العالم، استثمارات في العملات الرقمية والبنى التحتية وإصلاحات مالية وانتشار عالمي لخدماتها الرقمية والصيدلانية.
تاريخياً، كانت الهند في صدارة الدول المتحرّرة من الاستعمار؛ ورئيسها جواهر لال نهور، يقف إلى جانب عبد الناصر وجوزيف تيتو وشو إن لاي... يؤسّسون معاً حركة عدم الانحياز، بين الجبارَين السوفييتي والأميركي. مع عداء شديد ضد الثاني، أميركا. ومنذ نيلها الاستقلال، رفضت الهند قرار تقسيم فلسطين عام 1947، وبقيت مساندة للقضية طوال السنوات السابقة على انهيار الاتحاد السوفييتي. ومع أن العلاقات بينها وبين إسرائيل لم تكن مقطوعة تماماً، إذ حصلت بعض الاتصالات السرّية بين الدولتين طوال ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، فإنّ التقارب العلني معها كان نقطة تحوّل بطيء نحو النقيض.
منذ نيلها الاستقلال، رفضت الهند قرار تقسيم فلسطين عام 1947، وبقيت مساندة للقضية طوال السنوات السابقة على انهيار الاتحاد السوفييتي
هكذا، على وقع تقارب مع أميركا بوش، وتمتين مصالح اقتصادية مع "الجميع"، تتسلّل إسرائيل، فتحتل مرتبة عالية في نسبة التبادل، بالسلاح والتكنولوجيا؛ وبالوتيرة نفسها، تغيّرت مضامين التاريخ منذ الاستقلال، كُتب تاريخ جديد، لا فلسطينيين فيه، ولا غاندي صاحب الحرب السلمية، ولا كبار الفلاسفة والعلماء الغربيين؛ على أساس أن الهند "المنارة التي تنير عالماً ذاهباً إلى حتفه" والهند التي "تتكلّم مع كل الدول"، والهند "متعدّدة التوجّهات الجيوستراتيجية"...
وكله مع نمو الأحزاب المذهبية الهندوسية، وفي مقدّمها حزب بهاراتيا جناتا، الذي قاد صفوفه نارِندا مودي، قبل أن يصير حاكم البلاد الفعلي. فكانت حركتان متوازيتان متلازمتان: كلما تصاعدت نزعة المذهبية الهندوسية، مع الأقلية المسلمة (200 مليون) والأقلية المسيحية ذات العدد الأقل (29 مليوناً)، تراجع التضامن مع فلسطين وتصدرت إسرائيل مكانة متنامية. ولا يقتصر الأمر على المذهبية. إنما ينطبق على الديمقرطية، التي تتآكل شيئاً فشيئاً كلما طال حكمُ الرئيس نفسه، القمعي المذهبي. وكلما نال الهند شيءٌ من الضرر اقتربت من إسرائيل أكثر فأكثر.
نارندرا مودي، الذي يطمح إلى تجديد ولايته "ديمقراطياً"، في الربيع الثاني، وهو الرابح بلا شك، ستكون له عشر سنوات من الحكم على الهند كلها، سبقتها سنواتٌ على التدريب في ولايته التي حكمها أيضاً. ينظم عبادة شخصه على نحو لم يسبقه إليه أي ديكتاتور عادي. يسمّي نفسه "ملك القلوب الهندية"... صورتُه في كل زاوية، محطّة، مطعم، مقهى، شركة، مؤسّسة، مدرسة، ساحة... ومن الاختراعات الهندية في هذا الميدان أنّ في كل محطة قطار ثمة مجسّماً عملاقاً له، يمكن لكل مارّ أن يقف إلى جانبه، أو في ثغرة مستديرة من المجسّم، أصغر منه بالطبع، ويلتقط صورة "معه". يضحّي بروبيات قليلة من أجلها. لكنه سيدخل بها إلى عائلته سعيداً بغنيمته.
مرفق لعبادة الشخصية: حملة منظّمة ضد المثقفين وأساتذة الجامعات والكتّاب والأكاديميين، كلهم علمانيون يساريون، لن تجد لهم نظيراً في دائرة الحزب المذهبي الحاكم، فالمعروف أن الهند لم تلد مثقفين يمينيين. ومن الحملة المنظّمة واليومية هذه: إفراغ المؤسّسات الثقافية والتربوية، خفض تمويلها، اعتقال كتّاب وصحافيين، اغتيال بعضهم من دون أي تحقيق، إغلاق مكاتب قنوات تلفزيونية تكلّمت عن نارندرا مودي بشيءٍ من النقد، فيسود مناخ؛ يمنع أي رأي مخالف، يراقب كل المؤسّسات، يفرض عليها الموقف المطلوب منها، يهدّد المساجد والكنائس، يبثّ الرعب بين الصحافيين والمحامين، يراقب هواتفهم وهواتف الناشطين والمنافسين السياسيين والقضاة والموظفين والعلماء.
تنامت علاقة الهند مع إسرائيل. تصدير واستيراد سلاح وتكنولوجيا، و"شراكة استراتيجية"، ضرب بشبه التوازن العلني الذي اعتمدته سابقاً
ينظر المذهبيون الهندوس إلى بلادهم أنّها تلتقي أيديولوجياً مع إسرائيل باعتبارها معرّضة مثلها لخطر يشكله العالم الإسلامي عليهما. للبوغرومات ضد المسلمين الهنود فصول معتبرة. وضد كشمير المسلمة المطالبة باستقلالها عن الهند، والتي توصف بـ"عدو الداخل". وجرائم مذهبية في الأحياء والمناطق المسلمة. بعد وصول نارندرا مودي، ترتفع نسبتها، وتبقى بلا محاسبة ولا تحقيق. منذ أيام، احتفل هذا الأخير بحدث اعتبره "بأهمية عيد الاستقلال". حدث ضخم و"مفصلي" دُعيت إليه آلاف الشخصيات والنجوم، ونُصبت شاشة ضخمة لمتابعيه في كل سفارات الهند. ما هو الحدث؟ تدشين معبد هندوسي في أيودهيا، قام على أنقاض مسجد بابْري، الذي بني في القرن الخامس عشر. دمّره مذهبيون هندوس عام 1992، بالفؤوس والمطارق، ونشبت على أثره أعمال عنف، حرق وسرقة وقتل، راح ضحيّتها ألفا شخص، غالبيّتهم من المسلمين.
ويخشى المسلمون اليوم أن يكون هذا المعبد الهندوسي مقدِّمةً لتدمير مساجد أخرى في المدن الهندية التي يعتبرها الهندوس "مقدّسة". راح بعض القادة والإنْفلونْسر الهنود يقارنون مصير مسجد بابْري بمصير مساجد أخرى، في الهند وفي القدس، ملمِّحين إلى هدم الأقصى من أجل بناء هيكل سليمان.
لكنّ ثمّة نوتة عصية على السمع في هذه المحبّة بين مذهبيتين، هندوسية هندية ويهودية إسرائيلية. الهنود من الجنس الآري، المعادي للجنس السامي، كما يصفون أنفسهم من زمان. يعتمدون في محكياتهم على هذا الانتماء المعادي لأصحاب الجنس السامي، ويطلقون العنان لكراهيتهم السامية، ومن دون أن يروا فيها تعارضاً بينها وبين تقارب بلادهم مع إسرائيل.
في السينما، تنتج "بوليوود" أفلاماً تقدّم المحرقة اليهودية باستخفاف، تحولها إلى ثيمة كوميدية، أو صورة اليهودي فيها، حيث يبدو بشعاً، مستعدّاً لبيع أي شيء من أجل المال. في المدارس الهندية، يجهلون كلّ شيء عن المحرقة، ويعتقد التلامذة أنها يوم عطلة لأحد الأعياد عند اليهود. في الصحافة ومواقع التعارف بين الجنسين، تنطلق اللاسامية بحريةٍ أكبر. وتنال شخصية الزعيم النازي أدولف هتلر حيّزاً كبيراً من التحبّب: يبدو في الأفلام والمسلسلات شخصية مسلية، مضحكة، يحمل اسمَه المواليد الجدد. الإعجاب المفرط به، بأيديولوجيا "الاعتزاز العرقي" و"تنظيفه" الأقليات غير المرغوب بها... كله مرْفق بالشعارات النازية ورسْمة الصليب المعقوف.
دولة عملاقة "جنوبية" مذهبية، مرتدّة عن ديمقراطيتها، تتابع طريقها مع اللاسامية، وتؤيد إسرائيل
كانت الهند دولة "غاندية" تسترشد بمؤسّسها المهاتما غاندي، صاحب الدعوة إلى انتزاع الاستقلال من بريطانيا سلمياً. وسلمياً وديمقراطياً، أيضا حلّ جميع الخلافات، في الداخل ومع الخارج. وفي تلك الحقبة كانت الهند على علاقة وطيدة مع ياسر عرفات. وفي سبعينيات القرن الماضي، كانت أول من صوّت في الأمم المتحدة على أن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وها هي الآن تتخلى عن الغاندية، تعيد كتابة التاريخ الحديث على غير ضوئها. وتنخر بديمقراطيتها بالطرق والمراحل المختلفة. تغلق الحرية، تخسر أصحابها، وتترك سموم اللاسامية طليقة، حرة، على الشاشة والمواقع.
ويرافقها رئيسٌ، نارندرا مودي، بعلاقاتٍ تنامت خلال العشر سنوات من حكمه مع إسرائيل. تصدير واستيراد سلاح وتكنولوجيا، و"شراكة استراتيجية"، ضرب بشبه التوازن العلني الذي اعتمدته سابقاً. ليعلن تضامنه مع نتنياهو في 7 أكتوبر/ تشرين الأول "في هذا الوقت العصيب"، ويرفض مندوبها في الأمم المتحدة قرار وقف النار في غزّة، فيشكره المندوب الإسرائيلي، ويصف موقفه بأنه "داعم مائة بالمائة لإسرائيل". وإلى ما هنالك من تعبيراتٍ سبقت الحدث ولحقته، وكان جديدها أخيراً منع التظاهرات المؤيدة لفلسطين. ولن يقف التقارب عند هذا الحدّ. بدأت تنتشر تعبيراته الجديدة، مثل استقدام عمال هنود "غير مسلمين" أي هندوس، إلى اسرائيل ليسدّوا حاجتها بعمال في البناء والزراعة، بعدما طردت عمّالها الفلسطينيين. أو مثل آخر: شريط لم تُنفَ صحته ولا تأكّدت، تظهر فيه مجموعة من الشباب يقولون إنهم هنود هندوس، يشاركون الجيش الإسرائيلي في غزّة، يتابعون أنهم قدموا لمحاربة المسلمين، وإلى جانبهم جنودٌ آخرون يقولون إنهم إسرائيليون ويضحكون... مبتهجون بهم.
المهم أن دولة عملاقة "جنوبية" مذهبية، مرتدّة عن ديمقراطيتها، تتابع طريقها مع اللاسامية، وتؤيد إسرائيل.