بمناسبة بيان تركي

بمناسبة بيان تركي

12 مارس 2022
+ الخط -

يُشيع بيانٌ غاضب، أعلنته الخارجية التركية الأربعاء الماضي، بعض الارتباك، فهو يردّ على بيانٍ ينسبه إلى اجتماع للمجلس الوزاري العربي في اليوم نفسه في جامعة الدول العربية، "زعمَ" (مفردة البيان التركي) أن "تركيا تنتهك سيادة بعض الدول العربية"، ولكنه صدر عن "اللجنة العربية الوزارية المعنية بمتابعة التدخلات التركية في الشؤون الداخلية للدول العربية" (هذا اسمها بالضبط، مع الاعتذار لطوله)، وتتألف من مصر (رئيساً) والإمارات والبحرين والسعودية والعراق وأمين عام الجامعة، واجتماعها الذي أغضب بيانه أنقرة هو الرابع لها. واللجنة هذه تماثلها أخرى، اسمُها "لجنة التصدّي للتدخلات الإيرانية في الشؤون العربية"، وقد عقدت اجتماعا هي الأخرى (هل دانته إيران أم ليس بعد أم لن تفعل؟). وثمّة لجنة ثالثة (أو أولى؟)، اسمها "اللجنة الوزارية المعنية بالتحرّك لوقف الإجراءات الإسرائيلية في مدينة القدس المحتلة"، وقد عقدت اجتماعا أيضا برئاسة الأردن. وربما لأن السادة وزراء الخارجية صادقوا على البيانات التي رفعتها إليهم اللجان الثلاث (هل ثمّة غيرُها؟)، أمطر الموظفون في الخارجية التركية، الذين صاغوا بيانها، الجامعة نفسها والوزراء بنعت مقارباتهم بأنها "بالية وخبيثة"، و"لا تتناسب مع واقع المنطقة وديناميكياتها، ولا تُسهم في حل مشكلات منطقة العالم العربي". ولمّا كان الإعلام قد اكترث، بعض الشيء، بالاجتماع الوزاري العربي، وقد دُعي إليه لبحث ما سمّاها أحمد أبو الغيط "الأزمة الأوكرانية"، فقد قوبل خروج الاجتماع بتشكيل "لجنة اتصال وزارية عربية" بشأن متابعة هذه الأزمة بتنكيتٍ ساخر، واللجنة تضم، إضافة إلى الإمارات (العضو المؤقت حاليا في مجلس الأمن)، الأردن ومصر والجزائر والعراق والسودان. ولم يشرح أبو الغيط، في إفاداته الصحافية بعد انتهاء الاجتماع (التشاوري المغلق)، مهمة اللجنة هذه وصلاحياتها.

سيكون من هزليات مسرح الارتجال لو فعلها واحدُنا وسأل عما ستُقدم عليه "اللجنة الوزارية المعنية بالتحرّك لوقف الإجراءات الإسرائيلية في مدينة القدس المحتلة"، بعد أن صادقت، أمس الجمعة، اللجنة الولائية للتخطيط والبناء الإسرائيلية في القدس على مخطّط بناء 730 وحدة استيطانية في مستوطنة "بسغات زئيف" شمالي القدس (الشرقية). ومن الهزل (والهزال) أيضا أن يعرّفك قليلٌ من التدقيق بأن ما أشهرته تلك اللجنة الخاصة بـ"التدخلات التركية"، في بيانها، الأربعاء الماضي، هو ذاتُه، بالمفردات ذاتها، في بيانين سابقين لها في مارس/ آذار 2021 وسبتمبر/ أيلول 2021، بل إن بيان الخارجية التركية الغاضب يكاد يكون نفسه البيان الذي أصدرته الخارجية ضد بيان اللجنة في سبتمبر الماضي، غير أن شيئا من الجدّية في تمحيص الأمر ربما له بعض الضرورة هنا، فاللهجة الحامية في بيان اللجنة العربية هذه تلتقي، إلى حدّ ما، مع ما لوحظ في البيان المصري السعودي، في ختام زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي الرياض، ومباحثاته هناك، بشأن تركيا، وإنْ مع عدم تسميتها صراحة، عندما جاء البيان على رفض الجانبيْن "أي محاولاتٍ لأطراف إقليمية للتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، أو تهديد استقرارها، وتقويض مصالح شعوبها"، فضلا عن تشديد البيان على خروج كل القوات (والمرتزقة) الأجنبية من ليبيا.

ولئلا يُؤخذ الكلام هنا على غير مقاصده، فإن وقف كل تدخلاتٍ إقليميةٍ في الجسد العربي، تركية وإيرانية وغيرها، يظل هدفا لا يجوز الاختلاف عليه، فلا يملك عربيٌّ غيورٌ إلا أن يساند ما جاء به بيان اللجنة الوزارية العربية. ولكن النقاش ليس هنا، وإنما بالعطالة العربية المنظورة، وبالرطانات اللفظية التي يتوسّل بها ناس "العمل العربي المشترك" التعمية على العجز العربي، وعلى الانكشاف المشهود الذي يجعل غير بلد عربي مجرّد ساحة أو ملعب رماية للآخرين (ما أخبار اليمن؟). ومن بديهي البديهيات أن لا وزن أبدا لبيانات جامعة الدول العربية ولجانها، ليس فقط في منظورات قوى ودول وتكتلات كبرى، بل أيضا قبلها وبعدها، لدى الأنظمة العربية الرسمية نفسها، حيث عواصم عربية تستقبل، باضطراد لا يتوقف، وزير الحرب الإسرائيلي ورئيس الأركان ورئيس الموساد، وحيث فشلت رهانات قوى عربية متورّمة في ذاتها أمام تركيا وإيران، في ليبيا واليمن والعراق وسورية ولبنان و... وهذا حال يجعل انشغالا ببيانات لجان وزارية تحت مظلة جامعة الدول العربية كما طبخ الحصى.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.