بماذا تعِدنا الصين الآخذة بإسقاط أميركا؟
"الممانعون"، أصحاب العداء الفطري للغرب وأميركا، أعرباً كانوا أم أعاجم، ارتفعت معنوياتهم في الآونة الأخيرة. أخذوا بيد الصين الصاعدة، وراحوا يعيدون أسباب حبّهم لها. ولم يعُد ذكر الأفعال المشينة للإمبريالية الأميركية تظلماً، أو تمرّداً، كما كان أيام انشغال الصين برفع مستواها، بل صار اليوم تعداداً مريحاً ومبهجاً لمساوئها: سيطرتها على العالم، أفغانستان، العراق، إسرائيل ... وهي الآن، بـ"حربها على أوكرانيا"، بالاشتراك مع الأوروبيين، تخسر وتكذب وتسلِّح، وتجنّد المخابرات ... إلخ. ويلي المرافعة إنشاد بالمنجزات الصينية، الاقتصادية خصوصاً، وصبرها وتأنّيها، وحياكاتها، ودراستها العميقة كل الملفات الدولية. وشعارها المبثوث في كل الفضاءات، أنها، يا لها من دولة شجاعة مدهشة، تريد إزاحة الإمبريالية الأميركية عن قيادتها العالم، ولإزاحة أميركا عن عرشها من الجماهير الصادقة أكثر من أي شعار آخر. إنه شعار "أصيل"، موروث عن حقبة وعن أهل وجيران وبيئة.
مقابل هذا "الرأي"، أو بالأحرى هذا التجييش لخط "الشرق"، ثمّة من يحاول أن يقول العكس. ولكن حماسته قليلة، فهو لا يريد أن "يدافع" عن أميركا نظراً إلى ما ارتكبته من آثام تجاه منطقتنا وبقية العالم، ولتلاعبها الفظ بالديمقراطية وبحقوق الإنسان. ومن بين عشرات الأمثلة: تأنيب أميركا السعودية بعيد اغتيال جمال خاشقجي، ثم انفتاح عليها بعد حرب أوكرانيا، والاستغاثة بنفطها، وكأن شيئا لم يكن. أو غضْ نظرها عن القهر المنظَّم الذي تمارسه السلطات الصينية ضد أقلية الإيغور، ذات الأصول التركمانية، عندما تكون محادثات وتقارب، ثم إثارة مأساتهم هذه عندما تحتدّ العلاقة بينها وبين الصين. ويكون جواب صاحب هذا الرأي متواضعاً ومرتبكاً، وأحيانا مكابراً. من مثل أن "كلا"، لن تتفوق الصين على أميركا! فهي لا تملك القوة الناعمة ولا الخشنة ولا التكنولوجيا التي تملكها أميركا. وبين الاثنين، كمن يريد أن يصالح بين خصمين، أو تبريد العقول الحامية من دون خدْشها، فيقول "كلا" أخرى: لا الصين ولا أميركا... إنما الهند بانفجارها الديمغرافي الحالي، الذي سيحوّلها إلى "مصنع العالم" بفضل وفرة أيديها العاملة ورخْصها، فيما الصين داخلةٌ في عصر الانحطاط الديمغرافي، بعد خططها الفاشلة في تنظيم الأسرة (سياسة الولد الواحد خلال 20 سنة).
بدا وكأن ثمة سجالاً، لا يتساوى طرَفاه. الأول منتصر على الساحة، مدعوم بدول كانت في الأمس القريب تضع رقابتها على الرأي المعادي لأميركا، وصارت اليوم تشجّعه. ومدعومة أيضاً برأي عام ورثَ الثقافة المعادية للغرب، لأميركا، للرجل الأبيض... أما الطرف الثاني، فلا يعرف أن يدفع هجمة الصين الجديدة، أو يدافع عن أميركا، سوى بعبارات القوة نفسها. وما يضعفه أكثر فأكثر أنه لا يقول بـ"الديمقراطية" بصوت واثق، لأن هذه الأخيرة مضروبة في بيتها، الغرب، تتنازعها الشعوبية والفاشية، ولأنها "ضعيفة" بدفاعها عن نفسها ضد الغزو الروسي، المصِرّ على تدميرها، هي وأوكرانيا على حد سواء.
لن يستقيم العالم على توازن، أو هدنة طويلة تؤسّس لجبارِين آخرين ... إلا بعد عشرات السنوات، أو ربما قرنٍ بأكمله
هذا السجال صاخب. ليس بدويِّه، إنما بمضامين ما ينذر به، فوسط غباره، تجد من يطرح على نفسه السؤال: حسناً. غلبت الصين أميركا، وجلست مكانها على عرش العالم. ما هي الفكرة، ما هي الطريقة، ما هو المعنى... التي تجعلنا نحبها، أو نحلم بالسكن في ديارها، أو نمشي على "نظامها العالمي الجديد"؟ فخارج كلماتها الشعرية، "طريق الحرير"، هل تملك الصين غير استثماراتها "التنموية"؟ التي تؤسّس لبنى تحتية، هي ملكها، أو طريقتها للهيمنة على البنى التحتية، باسم الاقتصاد، فيكون صراع شبيه بالنهب الإمبريالي السالف، أنيقٌ وصامت، لن تفهمه الشعوب إلا بعد فوات الأوان، كما يحصل دائماً ... وكما هو حاصل في أفريقيا، حيث تؤسّس الصين لسيطرة عميقة على دولها الفقيرة باسم إسقاط الاستعمار الغربي.
أم أن الصين سوف تعوِّض عن استعمارها الجديد بهباتٍ ثمينة: مثل نظامها السياسي الحديدي، المموّه بإرث مؤسسها ماو تسي تونغ، "الشيوعي" و"الاشتراكي"، واقتصادها، ولاّد الأوليغاركيين، أصحاب الملايين والمليارات، وفقراء المجد الجدد، والذي يمكسه حزب واحد أبدي، ذو أساليب ستالينية، وقائد شامل، أبدي بدوره؟ وكلها عدّة تجد صداها في حكم البعث الأسدي. يتوّجها شعارهما الواحد الوحيد: "محاربة الإمبريالية والغرب". ولا عجَب بعد ذلك أن الصين تدعم بشار دبلوماسياً، وفي الأمم المتحدة، فيما هو ينظر إليها بصفتها الضمانة الأبقى له، على رأس سورية محتلة من أربعة جيوش. فيما أميركا الآن توجّه ضربات متفاوتة: ضربة محقّة في أوكرانيا دفاعاً عن أوروبا الديمقراطية. وأخرى تنافسية، هي قيد الإعداد لها في جنوب شرق آسيا، حيث تقول عقيدتها القومية إن عليها أن تحتوي الصعود الصيني بدعم حلفائها الآسيويين بالسلاح والاتفاقات الأمنية. وبينهما، حقوق شعوب وسعادتها ورخاؤها، على مذبح جموح الصين لقيادة العالم.
لأنها لحظة اهتزاز، سيولة، غموض، عدم يقين... مرآتها الساطعة هي الحرب في أوكرانيا، وكل ملحقاتها، ونتائجها وصيرورتها. وبما أن روسيا، مهما ربحت، فهي ستخرُج منها ضعيفة، يبقى "الجبّارَان" متواجهَين. "جبّار" صيني، يسعى إلى طرد أميركا من جنّة سيادتها على العالم، و"جبّار" أميركي، يتشبّث بهذه الجنة. ولكنه، أي الصراع، سيدوم. ولن يستقيم العالم على توازن، أو هدنة طويلة تؤسّس لجبارِين آخرين... إلا بعد عشرات السنوات، أو ربما قرنٍ بأكمله، كما حصل مع الإمبراطورية العثمانية.
لإزاحة أميركا عن عرشها من الجماهير الصادقة أكثر من أي شعار آخر. إنه شعار "أصيل"، موروث عن حقبة
وعلى سيرة هذه الإمبراطورية، وسجالاتنا تذكّر بها: عشيّة إحدى التحوّلات العالمية المشابهة. الإمبراطورية العثمانية، التي تحتضر منذ قرن، تتحالف مع ألمانيا، ضد فرنسا وإنكلترا، في الحرب العالمية الأولى. والدول الأربع تختم بذلك مسلسل التغلغل والحروب الصغيرة على النفوذ والثروات والمستعمرات. تنْتبه إنكلترا إلى أن العثمانيين يمكن أن يقيموا ضدها "حلفاً إسلاميا"، "جهاديا"، فتجنِّد ضدها أهل المشرق والجزيرة العربية. وتلتقي بالشريف حسين، في مشروع جيشٍ مسلحٍ يحارب إلى جانبها ضد العثمانيين، مقابل حصوله على "مملكة العرب" التي تضم هذين الإقليمَين، فكان ما سمي في كتب التاريخ: "ثورة الشريف حسين" المطعونة المخدوعة، التي ضحك عليها الإنكليز، بالخبث والخديعة.
تجربة الشريف حسين الفاشلة، نتندّر بها ونتعلم منها. أوضح دروسها، أن القوة الصاعدة لا بد لها من فكرةٍ لتضم إليها المتعاطفين. وأن الانخداع بالفكرة وارد، حتى فكرة الديمقراطية، التي يمكن أن تتحوّل إلى ذريعة استبداد. فما بالك عندما يكون هذا الأخير، أي الاستبداد، صريحا وعلنيا، لا يحتاج للقيام بتمثيلية "الوعود" الانتخابية البرّاقة، كما هو حال الصين الصاعدة اليوم؟