اليمن .. أن تخوض معركةً بلا قائد

اليمن .. أن تخوض معركةً بلا قائد

16 مارس 2021

صورة الرئيس هادي على لوحة إعلانية في عدن (9/8/2018/فرانس برس)

+ الخط -

تسلّم الرئيس عبد ربه منصور هادي سلطته رئيسا لليمن في نهاية فبراير/ شباط 2012. وبهذا يكون قد قضى تسع سنوات، ست منها في الخارج، في ما يعد سابقة في تاريخ اليمن أو ربما العالم. ومن الصعب المجادلة طويلاً في ما تبقى من شرعية رئيس المرحلة الانتقالية التي انتهت قبل سبع سنوات، والأسوأ منها الغياب الكلي لمشروعية الرجل الأقل قبولا وشرعية داخل اليمن وخارجه.
منذ البداية، كان اختيار هادي رئيساً كاشفاً مدى ضعف خيال الأحزاب السياسية، أو بمعنى أدق مدى انتهازيتها، فهي اختارت شخصا وظيفته الفعلية أن يكون "لا شيء" بمنصب نائب رئيس أزيد من 17 عاماً، ومجرّد ظلّ باهت، وصفة ديكورية لنظام الفرد الأوحد. كان واضحا أن من قرّروا اختياره كانوا يجدون في ضعف شخصيته وحضوره الباهت فرصةً للتحكم فيه من وراء ستار، غير مكترثين لخطورة هذا الضعف، نتيجة الشعور باللاقيمة، الطويل الأمد على شخصية الرجل، وانعكاس كل هذا على البلد في مرحلة حرجة. كانت المسألة تنطوي على قدر كبير من المقامرة بمستقبل البلد لمصالح شخصيةٍ أكثر من ضيقة. يضاف ذلك إلى إشكالات هادي الطبيعية، كجزء من منظومة حكم علي عبد الله صالح، كوراثته تركته الفاسدة وأيضاً تأثره الكبير بأساليب صالح في الحكم، سواء التلاعب والفساد أو شراء الولاءات، لكن بدون مهارات صالح الشخصية، مثل الذكاء وقوة الحضور.
على الرغم من أن أحد أهم أسباب اختيار هادي خلفيته المناطقية جنوبيا، إلا أن هذه الخلفية تحديداً تحولت إلى إشكالية شمالاً وجنوباً، فعلى الرغم من أن الرجل تم التصويت له بشكل واسع من الشماليين من دون أي حساسية مناطقية حيال تولي رجل جنوبي هذا المنصب في صنعاء لأول مرة منذ مئات السنوات، إلا أن هادي عزل نفسه في القصر محاطاً بالسفراء والمبعوث الأممي الذي افترض أنهم القوة الفعلية التي جلبته إلى الحكم، وبدونهم لا يمكنه الاستمرار. وتجاهل القوى الاجتماعية، ولم يكن يستقبل مشايخ القبائل والوجاهات الاجتماعية في بلدٍ لا يمتلك مؤسسات دولة، وظل أكثر من ثلاثة عقود يدار بالعلاقات الشخصية.

بعد بداية الحرب التي أنهت المرحلة الانتقالية، تعطّلت الحياة السياسية بسبب الحرب والمنفى الذي لجأت له معظم الشخصيات السياسية والإعلامية، ما أعطى هادي مزيدا من الحرية

هادي المعزول في قصره في صنعاء كان إشكالية حقيقية للجنوبيين أيضاً، فهو بالنسبة للتيار الانفصالي الواسع في الجنوب مجرّد شخص من منظومة صنعاء التي شاركت في حرب 1994 ضد الحزب الاشتراكي في الجنوب. تصرّف هادي مع الجميع بمناطقية مفضوحة، وتفتقد الحد الأدنى من الحنكة السياسية. صحيحٌ أن المناطقية إحدى المعضلات التي حضرت دوماً برأس السلطة في اليمن شمالاً وجنوباً، بسبب ارتباطها العضوي بالاستبداد واقترانه الطبيعي بالعصبية، لكن كان دوماً هناك شيءٌ من احترام التنوع المناطقي الذي على الرئيس مراعاة حساسياته، وهذا ما افتقده هادي، خصوصا مع ضعف قدراته الاجتماعية والعزلة الشخصية التي اختارها لنفسه في صنعاء. الأسوأ من هذا أن هادي جاء محمّلاً بثاراته جنوباً وشمالاً، غير قادر على تجاوز انقسام الحرب الأهلية في الجنوب عام 1986، ولا متناسياً الشعور بالنقمة من وضعه كنائب رئيس، جنوبي ديكوري في منظومة حكم يهيمن عليها الشمال.
منذ البداية، قرّر عبد ربه منصور هادي التلاعب للقضاء على خصومه ومنافسيه، مع أنه لا يمتلك مهارات شخصية تؤهله لذلك، ولا يسيطر كلياً على مقدّرات السلطة كسابقه، بما يجعله قادراً على التحكّم بمسارات تلاعبه بالأوراق وخلطها. هكذا بدأ مقامرته الكبرى، لتمديد بقائه في السلطة من خلال تسهيل تمدّد الحوثيين عسكرياً في الشمال. اتضح هذا من عدم تقديم الدعم الجوي الكافي للجيش في معركته لمنع الحوثيين من السيطرة على محافظة عمران الاستراتيجية، ثم استمرّت المغامرة حتى سيطر الحوثيون على العاصمة صنعاء، مفترضاً أن هذا سوف يخلصه من خصومه ومنافسيه من حزب التجمع اليمني للإصلاح، وكأن الحوثي لا يمتلك مصالحه ومشاريعه الخاصة به.
بعد بداية الحرب التي أنهت المرحلة الانتقالية، تعطّلت الحياة السياسية بسبب الحرب والمنفى الذي لجأت له معظم الشخصيات السياسية والإعلامية، ما أعطى هادي مزيدا من الحرية، وأطلق يده من دون خشية مساءلة أو حساب، سوى بقايا ضغط سعودي يرضخ له، طالما لا تمس مصالحه وثاراته الشخصية. إذن، لا شيء تغير في سلبية الرجل وضعفه، والأهم محدودية قدراته، غير طبيعة استلاب الإرادة، وهذا طبيعي. ولكن كيف يمكن تفسير تعامل القوى السياسية المختلفة، وخصوصا حزب الإصلاح، مع هادي، بسوى الانتهازية وضيق الأفق؟

وجد "الإصلاح" في هادي ضالّته، وأصبح مستحوذاً على دائرته الضيقة، واستخدم نفوذه لصالح قضايا حزبية وفردية، لا علاقة لها بالهم الوطني

لأسباب انتهازية، وانشغالاً بمعارك شخصية وجانبية كثيرة، قرّرت هذه القوى ألا تقف في وجه الأداء الكارثي للرئيس هادي، بل وسيطرة أبنائه المطلقة على مقاليد الأمور. هكذا من دون أي شعور بالحرج لقياداتٍ حزبيةٍ مخضرمة، ضجّت الدنيا في معارضة صالح وفساده ونفوذ ابنه وأبناء أخيه المتزايد، فتحوّلوا إلى أصنام مع هادي، على الرغم من أنه فعل كل ما فعله صالح وأكثر، في وضع وطني أكثر حرجا وحساسية، ويتطلب صدقا وشجاعة في التعاطي.
هكذا استمرّت الحكومة بأداء عبثي وفاسد، مشغولة بتوزيع الغنائم والمناصب على الأهل والأًصدقاء، من دون أي احتجاج أو محاولة لإصلاح الوضع الذي يدفع ثمنه اليمنيون يومياً. بل إن شكلا من تحالف الضرورة والانتهازية نشأ بين هادي وأكبر القوى السياسية، حزب الإصلاح، الذي انخرط في هجوم حادّ ضد هادي بعد سقوط صنعاء، بسبب مسؤوليته الواضحة عن هذا السقوط. لكن هذه الحملة هدأت، وظل الحزب يلعب لعبة مزدوجة، ينتقد ويحمّل هادي مسؤولية كل كارثة، لكنه عملياً لا يفعل شيئا سوى إسناد هادي ودعمه ومهاجمة محاولة أي نقاش جدّي بشأن البدائل له أو حتى إصلاح أدائه الكارثي.
وجد "الإصلاح" في هادي ضالته، وأصبح مستحوذاً على دائرته الضيقة، واستخدم نفوذه لصالح قضايا حزبية وفردية، لا علاقة لها بالهم الوطني. وزاد من التصاقه بهادي شعور الحزب بالخطر من الإماراتيين، واستهدافهم الحزب. بينما رأى هادي في الحزب وآلته الإعلامية وقاعدته الشعبية ضرورة يحتاجها رجلٌ بلا شعبية ولا قاعدة سياسية. وقد كلفت هذه العلاقة المسمومة بين الطرفين البلد كثيراً، فتسبّب "الإصلاح"، أكبر القوى السياسية تحت مظلة الشرعية، وازدواجيه أدائه بين نقد هادي إعلامياً والتمسّك به، في المأزق الحالي الكارثي.

لم يكن مستغربا تمدّد الحوثيين نحو مأرب، بعدما خسرت القوات الحكومية مواقعها في نهم ومحافظة الجوف العام الماضي

وصول الحوثيين إلى مرحلة حصار مأرب التي صاروا على أبوابها من النتائج الكارثية لاستمرار عبد ربه منصور هادي في السلطة، من دون حسيب أو رقيب، بينما ارتضت القوى السياسية الصمت، والصراع المرير على فتات السلطة، عوضاً عن إيقاف هذا الرجل وأبنائه ودائرته المناطقية الضيقة من الاستمرار في العبث بمصير اليمنيين، عوضا عن البحث عن بدائل، مثل تشكيل مجلس رئاسي أو الضغط لنزع جزءٍ من صلاحيته رئيسا. وهكذا عجزت الحكومة عن إدارة الحرب بجدّية، وهي غير قادرة على تحمّل مسؤولية معيشة الناس، وكل ما تفعله أنها تخسر مزيدا من الأراضي التي يفترض أنها تحت سيطرتها، لتكتمل بهذا عملية تفكيك اليمن.
لم يكن مستغربا تمدّد الحوثيين نحو مأرب، بعدما خسرت القوات الحكومية مواقعها في نهم ومحافظة الجوف العام الماضي، وعوضاً عن معالجة الأمر، وتجنيب المدينة مخاطر الاجتياح الحتمي، ظلت حالة الاسترخاء هي السائدة كالعادة، حتى أصبح مكلفا جداً أن تصمد المدينة في وجه الحوثيين، المكشوف ظهرهم، والذين يستطيعون تعويض كل خسائرهم من بشر وسلاح في هجومهم الشرس على مدينةٍ أصبحت شبه محاصرة.