المُرشح الكردي ... نجاح هناك وتراجع هنا

المُرشّح الكردي ... نجاح هناك وتراجع هنا

21 مايو 2023

مؤيدون لحزب اليسار الأخضر في إزمير في تركيا (12/5/2023/Getty)

+ الخط -

تنبع أهمية نتائج الانتخابات التركية، والتي انتهت جولتها الأولى من دون حسم السباق الرئاسي، بانتظار الجولة الثانية، من ثلاثة أسباب مركبة: أوّلها أنّها ستحدّد وجهة تركيا المستقبلية، ودورها في المحاور والاصطفافات السياسية الإقليمية والدولية. وثانيها أنها ستحدّد إمكانية الاستمرار في النظام الرئاسي أو العودة إلى البرلماني مع احتمال إزاحة حزب العدالة والتنمية من صدارة المشهد السياسي التركي، عبر المعارضة، وبشكل خاص دور حزب الشعوب الديمقراطية، وحجم ثقله ووزنه في معادلة التوازنات البرلمانية والتمثيل السياسي للتوزّع الجغرافي الكردي في تركيا، على أمل إحداث اختراقاتٍ عديدةٍ في التعامل مع مستقبل الكرد غير الموالين للأحزاب التركية الحاكمة. وثالثها تحديد دور تركيا المقبل في المعادلة السورية وسيطرتها المباشرة وغير المباشرة على الأراضي السورية.

لولا تعديل البرلمان التركي قانون عتبة دخول الأحزاب والتحالفات من 10% إلى 7% لما دخل كُردي واحد إلى البرلمان التركي

وتحمل هذه الأسباب الثلاثة تركيا إلى موقع جديد في الذكرى المئوية الأولى للجمهورية التركية. ومع الفرز السياسي الواضح، وفق التحالفات المتنافسة الموجودة، ما بين "تحالف الجمهور"، و"تحالف الأمة"، كأبرز كتلتين متواجهتين ومتنافستين على عدد مقاعد البرلمان ورئاسة الدولة، دخل تحالف "الكدح والحرية" المشكّل من حزب العمل اليساري الوطني، واليسار الأخضر (ممثل حزب الشعوب الديمقراطية)، الانتخابات الرئاسية، داعماً كمال كليجدار أوغلو في مواجهة الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، لكنه (تحالف الكدح والعمل) فشل في إيصال أوغلو إلى رئاسة الدولة. ويحصر أنصار هذا التحالف نجاحهم في تأجيل الحسم لأردوغان إلى الجولة الثانية، بعد توفيرهم قرابة خمسة ملايين صوت، من أصل 24.5 مليون صوت، فاز بها مرشحهم "أوغلو"، دون النظر للتراجع الخطير في التمثيل البرلماني، وخسارتهم عديدا من مقاعده البرلمانية التي حصدها حزب الشعوب الديمقراطية في الدورة الماضية، والبالغة 67 مقعداً نيابياً، ما يعادل 11.7% في انتخابات 2018، في مقابل حصوله على 61 مقعداً فقط في هذه الدورة، إضافة إلى أربعة مقاعد لحلفيه العمل اليساري، بما يساوي 8.8% فقط. ولولا تعديل البرلمان التركي قانون عتبة دخول الأحزاب والتحالفات للبرلمان من 10% إلى 7% في العام الماضي لما دخل كُردي واحد إلى البرلمان التركي، من خارج قوائم الأحزاب التركية التي دعمت ممثلين كُرداً، ولوَجد حزب الشعوب الديمقراطية نفسَه خارج العملية السياسية كلها. والسياسة في النهاية تُقاس بحجم المكاسب للشعب والمؤيدين، وليس باللعب على وتر التشهير والمسبّات. هذه صفعة جديدة على الخد الكردي في تركيا وسورية أيضاً، خاصة أنّ على الأطراف السياسية الكردية في تركيا وسورية أن تفهم أنّ الجيل Z، والأجيال القريبة منه، هم المحرّكون الفعليون للوسط المجتمعي وذوو تأثير مدوٍّ في العملية السياسية والانتخابية، وأنّ التجديد إن لم يحصل لن يبقى أي أثر لتلك الأحزاب، وهو ما كان واضحاً في اصطفاف نسب ضخمة من الشباب والمرأة الكردية لصالح حزب العدالة والتنمية.

أثبت الكرد في تركيا أنهم ليسوا "صناع الملوك ولا الرؤساء"

وصحيح أنّ حجم الضغط الإعلامي وكثافة الاعتقالات المُمارسة ضد القيادات السياسية والثقافية ضمن حزب الشعوب الديمقراطية لعبا دوراً كبيراً في تحجيم دوره وقوته، لكن نتائج الانتخابات أفرزت أربع قضايا كُردية مُلحة في تركيا: لماذا تستمرّ القوى التركية في حصد أصوات الناخبين الكرد في القلاع الجغرافية التاريخية والتقليدية للكرد؟. متى يفرط عقد الانقسامات السياسية والمجتمعية والفكرية التقليدية بين الأطراف الكردية القومية وتلك المنادية بالحقوق الأممية، خصوصا أنّ السياسة التركية قائمة أساساً على أسس هويّاتية علمانية ومحافظة وقومية معاً؟ متى يستفيق حزب الشعوب الديمقراطية من سباته العميق، ويدرك أنّ خطاباته حول البيئة والمرأة والديمقراطية لتركيا والشرق الأوسط لن توفّر له سيولة مجتمعية انتخابية، خاصة أنه مُني بهزيمة نكراء في غالبية الولايات التركية، ولم يحصد أي أصوات في العديد منها، مع نسبة ضئيلة من المصوّتين له في أنقرة وإسطنبول، مقابل نجاحه الباهر في آمد/ دياربكر رغم خسارته فيها مقعداً لصالح "تحالف الأمة"؟ كيف حصد المرشّح الثالث للرئاسة، سنان أوغان، نسبة أصوات من الناخبين الكرد، وهو المتشدّد تجاه حلّ القضية الكردية ومرشّح عن تحالف قومي متطرّف "تحالف الأجداد"؟.

والغريب أنّ المنظومة السياسية لحزب الشعوب الديمقراطية وخلفياتها وأجنداتها وحلفاءها إنّما يؤسّسون لسياساتهم وفق ما تفرزه ممارسات حزب العدالة والتنمية وسياساته، وفي الوقت نفسه، يمثل مرشّح "تحالف الأمة" خطراً على القضية الكردية في تركيا، خصوصا أنه تحالف هشّ يجمعه هدف إزالة الرئيس الحالي (أردوغان) من الحكم، لكن تفرّقه العديد من الخلافات والقضايا السياسية والإيديولوجية من علمانية وأتاتوركية وقومية، إلى اليمين المحافظ. كذلك يمثل حزب الجيد أحد أشدّ المعارضين لأيّ تقارب بين ذلك التحالف والشعوب الديمقراطية، والذي يؤكّد القوميون الأتراك أنه واجهة سياسية لحزب العمال الكردستاني. ومع حصده قرابة 45 مقعداً نيابياً، لن يكون من السهل تفريط تحالف الأمة به، لتنفيذ وعوده التي قطعها للشعوب الديمقراطية، كإجراء إصلاحات دستورية، بما فيها الحكم الذاتي، وإطلاق سراح المعتقلين الكرد، وهي نفسها الخطوط الحمر للغالبية السياسية والشعبية التركية. بل إنّ التصدعات في جسد "تحالف الأمة" إنما تعود إلى سقف الوعود الممنوحة لحزب الشعوب الديمقراطية، خاصة أنه في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة، ومن المرجح جداً أن تلعب المواقف من الورقة الكردية أحد الأدوار المحورية في أيّ اصطفاف جديد.

من المرجّح جداً أن تلعب المواقف من الورقة الكردية أحد الأدوار المحورية في أيّ اصطفاف جديد

وفقاً لذلك، أثبت الكرد في تركيا أنهم ليسوا "صناع الملوك ولا الرؤساء"، ولا دور فاعلاً أو مؤثراً لهم، خارج نقطة تأجيل فوز العدالة والتنمية للجولة الثانية. وعلى الرغم من الزخم الشعاراتي الضخم فقد فقدوا أكثر من مليون صوت مقارنةً بالدورة الماضية، وفاز "تحالف الشعب" بأكثر من 40% من أصوات الناخبين الكرد في الـ15 ولاية كردية في تركيا، والتي قال حزب الشعوب الديمقراطية إنها حواضنه المجتمعية والثقافية والسياسية، والمعاقل التاريخية له. لكنّ كلّ الدعاية والإعلام والضخ لم تنجح في تغيير سلوك الكرد في تلك الولايات وتوجهاتهم، بل إنّ حزب هدى بار (الدعوة الحرّة) الكردي حصل على مقعدين برلمانيين في تلك المناطق الكردية، وهي الجهة المنافسة للشعوب الديمقراطية، ويتقاسم معه الوسط المجتمعي والثقافي ذاته.

تشتّت القوائم الكردية، وغياب المشروع الهادف، وعدم اقتران الأقوال طوال الأعوام الماضية بالأفعال، حوّلت موقع الناخب الكردي باتجاه "العدالة والتنمية" وتحالف الأمة في البرلمان التركي، مع غياب قوائم كردية موحّدة، أو الدخول في تحالفات محسوبة النتائج والمستقبل.

من جديد، لم تتحوّل السياسة الكردية في تركيا إلى حجر الزاوية أو المحور في العملية السياسية حتى الآن، بل استمر الكرد في بقائهم ضمن دائرة فاقدي الحركية والإجرائية. والمنطق السياسي يقول: حين يغيب ممثلو قضية قومية عن طاولة الحوارات والمفاوضات الداخلية أو الخارجية من الطبيعي أن تجد تلك القضية خاضعة لمصالح الفواعل الأساسيين في السياسة التركية.