القضايا العربية شأنا أخلاقيا عالميا

القضايا العربية شأنا أخلاقيا عالميا

12 ديسمبر 2020

(فادي يازجي)

+ الخط -

قبل عام، سمعت، للمرة الأولى، اسم المؤدّية الكوميدية، ميسون زايد، في سياق غير متوقع. كنت قد سافرت إلى نيويورك، لتلقي تكريم في حفل جوائز رابطة مراسلي الأمم المتحدة. حين تصفحت برنامج الحفل، لفت الاسم العربي نظري، وحين ظهرت ميسون تعرّفت على هويتها فوراً قبل أن تنطق بكلمة، فقد تعمّدت ارتداء ثوب فلسطيني تقليدي. 

قدّمت ميسون فقرة أضحكت الجمهور وأبكتهم، خلطت بين الشخصي والعام، بطلة قصتها فتاة أميركية نشأت في نيوجيرسي، وعانت من إعاقةٍ بالشلل الدماغي لم تكبت طموحاتها الفنية، وهي أيضا عربيةٌ مسلمةٌ عانت العنصرية والصور النمطية، وعانت أيضا من أنماط ثقافية محلية لم تستثنها من السخرية الذاتية. وبالتوازي، تسرد قصتها فلسطينيةً تقاوم للاحتفاظ بهويتها. من دون خطابيةٍ مبالغ فيها، انهالت بالسخرية اللاذعة على سياسات نتنياهو وترامب.

لاحقا، عرفت المزيد من المعلومات عنها. تعد ميسون اسما بارزا في فضاء النشاط الفلسطيني في الولايات المتحدة. على الصعيد الفني، أسست مهرجان العرب الأميركيين الكوميدي في نيويورك. وعلى الصعيد الفلسطيني، أسست في 2003، جمعية خيرية باسم "ميسون كيدز" أو أطفال ميسون، لدعم أطفال اللاجئين الفلسطينيين، حيث نظمت برامج مساعدات الأطفال ذوي الإعاقة في الضفة الغربية، فضلا عن تدريبات لأولياء أمورهم ومعلميهم.

السؤال البديهي: لماذا اختارت إدارة الحفل ميسون تحديدا لتكون هي من تؤدّي الفقرة الكوميدية أمام نحو 600 مدعو من السفراء والدبلوماسيين والصحافيين، في مقدمتهم الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غويتريس، ورئيس الجمعية العامة، تيجاني باندي. بالتأكيد ليست مصادفة، بل تم تعمد اختيارها لرسالة سياسية رأتها الإدارة رسالةً أخلاقيةً جامعة، يمكن أن يتلقاها الحضور القادمون من شتى أرجاء الأرض.

ميسون نموذج مكرّر لجيل جديد من الفلسطينيين وُلد في الدول غير العربية، وتمكّن من استخدام أدوات مجتمعاته الجديدة، ليتم تعزيز القضية الفلسطينية قضية أخلاقية عالمية.

قد تفقد القضايا السياسية قدرتها على الفعل، لفقدها أسباب القوة المادية، لكن القضايا الأخلاقية لها وضع مختلف، فهي تتسّرب عبر مسارات عدة في الفن والثقافة والأنشطة الأهلية والأكاديمية وغيرها.

بالطبع، لن يغير عرض كوميدي، ولا مائة عمل فني، من الواقع، لكن الحديث هنا ليس عن شعارات رومانسية لعزاء النفس، من قبيل "خسرنا الأرض وربحنا الذاكرة"، بل عن خطوات تراكمية، يتم ترجمتها لاحقاً إلى فعل سياسي. شهدنا مثل ذلك سابقا بقضايا مثل العنصرية في أميركا، ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، والتي استغرقت عقودا من مرحلة كونها قضايا أخلاقية عالمية، قبل أن تتم ترجمتها إلى تغيراتٍ سياسيةٍ بفعل محرّكين يقودون أرضية تم خلقها بالفعل. وليس بعيدا عنا اليوم قرارات الاتحاد الأوروبي الخاصة بوسم منتجات المستوطنات الإسرائيلية، والتي تم تتويجها بحكم من محكمة العدل الأوروبية بإلزام إسرائيل بوضع ملصق يوضح مصدر المواد المنتجة في المستوطنات "لأسباب أخلاقية".

من الأولوية الحفاظ على هذا السند الأخلاقي، سواء كانت القضية فلسطين، أو التحوّل الديمقراطي العربي، أو حقوق المرأة في بلادنا، أو غيرها من القضايا. لا يمكن الاعتذار بفقد أسباب التغيير المادية، بل مسؤولية الحفاظ على المرجعية الأخلاقية تقع على أصحاب القضية أنفسهم.

وهنا لا نغفل أن فقد الأخلاقية يمكن أن تتم ترجمته إلى خسارة مادية مباشرة. فقدت القضية الفلسطينية كثيراً من رونقها في التسعينات، فضلا عن أموال الدعم، حين ساند ياسر عرفات احتلال نظام صدّام حسين المستبد لشعب عربي آخر. واليوم يتساءل العرب قبل غيرهم عن سر عجز الفلسطينيين عن إنهاء الانقسام وعقد انتخابات ديمقراطية لقيادة جديدة في الضفة وغزة، فضلا عن أن كلا من طرفي الانقسام تعرّض لانتقاداتٍ حقوقية بملفات تشمل الاعتقال السياسي التعسّفي والتعذيب. وهو ما ينطبق على بعض من يعتبرون أنفسهم ممثلي تيارات ديمقراطية عربية، ثم تكذّب مواقف أشخاصهم أو تنظيماتهم هذه الشعارات، باتخاذهم مواقف معادية للحريات الشخصية أو الدينية أو حتى للأداة الديمقراطية نفسها. 

في ظل الظروف الحالية، لا بديل عن طرح استراتيجيات طويلة المدى، وتشمل بشكل خاص شتات الشباب العرب خارج بلادهم، على أن يتقدّم برامجَهم الحفاظُ على أخلاقية قضاياهم، حيث تغدو الأخلاقية شأنا سياسيا أيضا.