العرض السياسي الجديد لحركة النهضة

العرض السياسي الجديد لحركة النهضة... السياقات والتحدّيات والانتظارات

01 يناير 2024
+ الخط -

تتالت، في الفترة الأخيرة، التصريحات الإعلامية لقيادات من حركة النهضة (تونس) كان من بينها حوار العجمي الوريمي، الذي جرى انتخابه في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي أمينا عاما جديدا للحزب، مع إحدى الإذاعات، وتحدّث فيه لأول مرة عن العرض السياسي الجديد لحركة النهضة ورؤيتها للحالة التونسية، بعد أكثر من سنتين من تاريخ إعلان الرئيس قيس سعيّد إجراءاته الاستثنائية لإدارة الحكم والبلاد في 25 يوليو/ تموز 2021، والتي تصفُها حركة النهضة، وطيفٌ واسعٌ جدّا من التنظيمات السياسية والمدنية بالانقلاب على الشرعية والديمقراطية.
قال الوريمي إن "النهضة" تقدّمت كثيرا في بلورة عرضها السياسي الجديد، وإنها ستقدّمه قريبا لعموم التونسيين، ولكل الفاعلين في الفضاءيْن، السياسي والمدني. وعن مضمون هذا العرض، اكتفى الوريمي بالإشارة إلى محاوره الأربعة: تقييم العشرية السابقة، عشرية الثورة والانتقال الديمقراطي، أولا. وتشخيص الوضع العام بالبلاد بعد أكثر من سنتين من إجراءات 25 جويلية (يوليو) 2021 ثانيا. وتقييم تجربة النهضة في الحكم من حيث السياسات والأداء ومن حيث الخيارات الاقتصادية الاجتماعية ثالثا. ورؤية حركة النهضة للخروج من الأزمة متعدّدة الأبعاد التي تمرّ بها البلاد التي تضاعفت حدّتها وزادت مخاطرها منذ 25 جويلية 2021، رابعا.
يأتي الحديث عن العرض السياسي الجديد لحركة النهضة في سياقات ثلاثة متداخلة، سياق وطني مأزوم في تدحرج مستمرّ تعيشه البلاد منذ "25 جويلية" وما بعدها، وسياق إقليمي ودولي متحرّك عرف أطرافا وأبعادا جديدة منذ 7 أكتوبر، مع انطلاق "طوفان الأقصى"، وسياق حزبي داخلي قلق، تعيشه حركة النهضة منذ مدّة تتالت وتراكمت فيه صعوباتٌ ومخاطر عديدة يراهن النهضويون على أن يكون عرضُهم السياسي الجديد منعرجا مهمّا في تجاوزها، وفي بناء حالة نهضوية جديدة معنىً ومبنىً وصورة.

من إدارة المخاطر إلى إدارة حوكمة الفرص والموارد
لم يكن خافيا على المتابعين للشأن التونسي في السنوات الأخيرة ما تمرّ به حركة النهضة، أكبر حزب سياسي وأكثر الأحزاب تنظّما في تونس في العشرية الأخيرة، من مشكلاتٍ داخليةٍ تطوّرت إلى أزماتٍ متراكمة، لم تنجح القيادة في تجاوزها. ساهمت هذه الأزمات في تحويل البيئة النهضوية إلى بيئةٍ قلقةٍ ومحتقنة، نتيجة توسّع الخلاف الداخلي والتجاذبات والاصطفافات وتراجع منسوب الثقة الذي وصل إلى حدّ تنازع الإرادات. ... كان من الطبيعي جدا أن تفيض هذه الأزمات الداخلية إلى خارج هياكل الحركة، وتحتل مساحة واسعة نسبيا في الإعلام التونسي، وهو ما ساهم في تعميق الأزمة، وأثّر سلبيا على صورة الحركة لدى أنصارها، ولدى عموم التونسيين، وعلى دورها الوطني وموقعها في العملية السياسية. وظهرت تداعيات ذلك كله واضحة في تراجع الحاصل الانتخابي لـ"النهضة"، رغم فوزها بالمرتبة الأولى في آخر محطتيْن انتخابيتين قبل 25 يوليو/ تموز 2021، وهما الانتخابات المحلية في 2018 بنسبة 28.6%، والانتخابات التشريعية في 2019 بنسبة 19.63% بتراجع بأكثر من ثماني نقاط عن انتخابات 2014 التي جاءت فيها "النهضة" ثانية، بعد حزب نداء تونس و52 مقعدا فقط بعد أن أحرزت 68 مقعدا في الانتخابات نفسها.

وجدت "النهضة" نفسها تواجه عددا غير قليل من المخاطر الثقيلة المهدّدة لديمومتها ولقدرتها على استعادة عافيتها وموقعها المتقدّم في المشهد السياسي

لم تنجح قيادة "النهضة"، وعلى زعامتها راشد الغنوشي، رئيس الحركة ورئيس البرلمان (2019 - 2021)، في تجاوز أزماتها وإصلاح أوضاعها وتعزيز أدوارها وموقعها في المشهد السياسي، حتى أدركها يوم 25 يوليو/ تموز 2021، في غفلةٍ منها، رغم تواتر مؤشّراتٍ ومقدّماتٍ عديدةٍ على أن الرئيس قيس سعيّد يتحرّك تصريحا وتلميحا في اتجاه وضع حدّ لمسار الانتقال الديمقراطي، وهو ما يعني بالنتيجة إزاحة "النهضة" من الحكم، وإنهاء رئاسة الغنوشي البرلمان الذي جرى غلق مقرّاته وتعليق أشغاله أوّلا، ثم حلّه ثانيا.
كانت محطّة "25 جويلية" محطّة مهمة في تاريخ البلاد وحركة النهضة التي وجدت نفسها في أتون أزمة داخلية حادّة وغير مسبوقةٍ مع نفسها ومع ناخبيها ومع عموم التونسيين، لتبدأ مع ذلك مرحلةٌ جديدة، عنوانها إدارة المخاطر، وكانت عديدة، من أهمّها مخاطر المواجهة المنفردة مع الرئيس سعيّد والتصفية الأمنية والقضائية ومخاطر الاستهداف "الشعبي"، خصوصا بعد ما حصل يوم 25 جويلية من مداهماتٍ لعدد من مقرّات "النهضة" في الجهات ونهب محتوياتها وإتلافها واعتداءات على بعض مناضليها.
نقلت إجراءات "25 جويلية" حركة النهضة من سدّة الحكم إلى صفوف المعارضة، من دون أن تكون قد تهيّأت لإدارة وضعها الجديد الطارئ. كانت الساعات الأولى التي تلت إعلان إجراءات الرئيس سعيّد حاسمة في مستقبل "النهضة" والبلاد، عندما وجدت الحركة نفسها أمام مفترق طرق، بين قبولها بالإجراءات، مثلما فعلت ذلك وقتها أغلب التنظيمات السياسية والمدنية التي أعلنت تأييدها الإجراءات واستبشارها بمستقبل أفضل، وبين أن تعلن رفضها الإجراءات، وتصفها على لسان رئيسها ورئيس البرلمان راشد الغنوشي، منتصف ليلة 25 جويلية من أمام مبنى البرلمان في جمع قليل من نواب البرلمان، وأنصار "النهضة" بأنها انقلاب على الدستور والشرعية، والتفاف على التجربة الديمقراطية، وأنه يجب مقاومتها.
في سياق هذه التحولات التي عرفتها حركة النهضة والبلاد، وجدت "النهضة" نفسها تواجه عددا غير قليل من المخاطر الثقيلة المهدّدة لديمومتها ولقدرتها على استعادة عافيتها وموقعها المتقدّم في المشهد السياسي، وفي الفضاء الإقليمي والدولي. تتوزّع هذه المخاطر على صنفين:

كانت "النهضة" قاب قوسين أو أدنى من الانزلاق إلى مواجهة ما تسميه الانقلاب مواجهة ميدانية "مفتوحة" و"منفردة"

السياق الوطني: مخاطر من داخل البيئة السياسية التونسية
1. خطر الوقوع في أو الاستدراج إلى حالة من التقابل الحاد مع الرئيس قيس سعيّد وإجراءاته، خصوصا بعد أن تفرّدت حركة النهضة تقريبا ليلة الإعلان عن الإجراءات الاستثنائية بوصفها بالانقلاب، وبالدعوة إلى مقاومته مقاومة مدنية سلمية بالوجود في الشوارع عبر المظاهرات والتحرّكات الميدانية، على شاكلة ما حصل في تركيا سنة 2016. كانت "النهضة" قاب قوسين أو أدنى من الانزلاق إلى مواجهة ما تسميه الانقلاب مواجهة ميدانية "مفتوحة" و"منفردة"، لولا تأخّر وصول أنصار "النهضة" ومناضليها إلى مبنى البرلمان ودعوة الغنوشي من كان موجودا معه منهم أمام البرلمان إلى الانسحاب في هدوء، من دون احتكاك مع قوات الأمن التي تُحاصر المكان.
كان هذا الانسحاب مدخلا مهمّا لنزع فتيل المواجهة منذ اللحظة الأولى بين حركة النهضة المنهكة والرئيس قيس سعيّد الصاعد، قبل أن يقرّ مجلس شورى "النهضة" سياسة واضحة في التعامل مع الأوضاع الجديدة، تقوم على توصيف ما حدث بالانقلاب على الشرعية، ممثّلة في دستور الثورة (2014)، وعلى تجربة الانتقال الديمقراطي ومكاسبها، وعلى الدعوة إلى مقاومته مقاومة سياسية، مدنية وسلمية في إطار حزام سياسي ومدني أوسع ما يكون حتى استعادة الحالة الديمقراطية باعتماد خط سياسي يقوم على ضابطين اثنين، هما عدم تصدّر المقاومة من جهة وعدم التخلف في صفوفها، من جهة ثانية. 
2. خطر الوقوع في حالة من العزلة السياسية تفتح على أن تستفرد السلطة "الجديدة" بحركة النهضة، وتوقع بها ضربات أمنية وقضائية موجعة قد تؤدّي إلى حلّ الحزب، أو على الأقل تحييده بزجّه في أزمة داخلية أو بشلّه وتجريده من كل عناصر قوته المادية واللوجستية وضرب معنويات مناضليه قضائيا وأمنيا، وجعلهم تحت ضغط الملاحقة والاعتقال والمحاكمة. 
3. خطر تحويل النهضة من فاعل سياسي معارض للانقلاب، وعامل من أجل استعادة الديمقراطية إلى حالة أمنية وحقوقية "منزوعة" من كل بعد سياسي ومنشغلة عن مخاطبة الشعب، للتعبير عن مواقفها من قضايا الشأن العام بالجري في أروقة المحاكم للرد على الاتهامات الموجهة لها ولقادتها، والدفاع عن معتقليها والمطالبة بإطلاق سراحهم أو على الأقل تحسين ظروف سجنهم.

مثّل سؤال مستقبل "النهضة" بعد المؤتمر الحادي عشر محورا آخر من محاور الخلاف الداخلي يبدو أن الجدل حوله سيأخذ نفسا جديدا

السياق الحزبي: مخاطر من داخل البيئة النهضوية
أدركت حركة النهضة إجراءات "25 جويلية"، وهي منهكة بمشكلات داخلية عديدة متراكمة، زادت حدّتها في المؤتمر العام العاشر للحزب (مايو/ أيار 2016) وفي أعقابه. كانت إزاحة "النهضة" من الحكم بالطريقة التي تمت بها يوم 25 جويلية بداية لوضع داخلي جديد واجهت فيه "النهضة" تحدّيات ومخاطر ثقيلة بعضها سابق، زادت حدّته وتوسّعت دوائره، وبعضها لاحق لم تتهيأ "النهضة" للتعامل معه، وإدارته بالشكل المطلوب. تعمّقت أزمة "النهضة" أكثر مع اعتقال رئيسها راشد الغنّوشي يوم 17 إبريل/ نيسان 2023 قبيل إفطار ليلة 27 رمضان في مشهدية استعراضية، أراد بها أصحابها إضافة، إلى التنكيل والتشفّي، كسر صورة الرجل الذي لا يتجرّأ أحد على المساس به. كان اعتقال الغنوشي مسبوقا باعتقال نائبيْه، رئيس الحكومة الأسبق، علي العريض، (ديسمبر/ كانون الأول 2022) ووزير العدل الأسبق ورئيس الكتلة البرلمانية لحركة النهضة، نور الدين البحيري (فبراير/ شباط 2023)، ومن هذه التحدّيات والمخاطر:

1. المؤتمر الحادي عشر للحزب المفترض عقده في مايو/ أيار 2020، والذي تمّ تأجيله أكثر من مرّة لأسباب ودواعٍ يتعلق أغلبها بمسائل موضوعية، مثل الأزمة الصحّية (كوفيد) والأوضاع الاستثنائية المعلنة يوم 25 يوليو/ تموز 2021 وما أعقبها، واعتقال القيادات وغلق المقرات ومنها المقرّ المركزي والحرمان من استعمال أدوات العمل اللوجستية والمالية. كانت قرارات التأجيل المتكرّر لموعد عقد المؤتمر محلّ خلاف داخلي، أضيف إلى الخلاف الأصلي بشأن طبيعة المؤتمر واستحقاقاته والانتظارات منه، وخصوصا في نقطتين رئيسيتين: تتعلق الأولى بمستقبل الغنّوشي وتتعلق الثانية بمستقبل "النهضة". مع عقد المؤتمر الحادي عشر، يكون الغنّوشي قد استوفى الدورتين اللتين يتيحهما له النظام الأساسي للحزب، ليكون رئيسا للحزب، ولا يحقّ له بالتالي الترشّح من جديد، لشغل هذا المنصب حسب مقتضى الفصل 31. 
رغم وضوح النص القانوني، ورغم إعلان الغنّوشي، في أكثر من مناسبة داخلية وفي الإعلام، أنه ملتزم بقانون الحزب، فقد بقي مستقبل الغنّوشي محلّ جدل وخلاف بين دعاة التمسّك بالقانون والداعين إلى ترك الموضوع إلى المؤتمر، ليبتّ فيه بناء على أن "المؤتمر سيّد نفسه". يعلي الموقف الأول من أهمية احترام القانون، ومن الحاجة إلى انتقال قياديٍّ وجيلي في إطار رؤية لتجديد الحزب. ويعلي الموقف الثاني من الحاجة إلى خبرة الغنّوشي ورمزياته وعلاقاته وموقعه في المشهدين، الوطني والإقليمي، حاجة زادت في تأكيدها أوضاع الحركة والبلاد بعد "25 جويلية".
مثّل سؤال مستقبل النهضة بعد المؤتمر الحادي عشر محورا آخر من محاور الخلاف الداخلي يبدو أن الجدل حوله سيأخذ نفسا جديدا، مع تقدّم النهضة في الحوار الداخلي الواسع حول مشاريع اللوائح التي أعدتها اللجنة المكلفة بذلك، خاصة منها المتعلقة بالتشخيص والتقييم والنقد الذاتي، الهندسة التنظيمية والقيادية الجديدة في إطار رؤية للانتقال القيادي وإصلاح الحزب وتطويره، أخيرا العرض السياسي الجديد.

توزيع السياسة بين "النهضة" وجبهة الخلاص الوطني لا يزال يمثل إشكالية معروضة على قيادة "النهضة" تبحث لها عن صيغة وترتيبات

2. الخط السياسي المناسب لإدارة مرحلة ما بعد "25 جويلية" التي انتقل فيها موقع "النهضة" من سدّة الحكم إلى المعارضة في سياق وطني يتميّز بموجة شعبوية صاعدة وبمزاج شعبي سلبي تجاه الأحزاب والمنظمات، وكل ما له صلة بالعشرية السابقة تقريبا. لم يمض وقت طويل حتى برز خلاف داخل "النهضة" حول الخط السياسي المناسب بين من يدعو إلى تثبيت خط المقاومة لما يسمّونه "انقلاب 25 جويلية" وعدم الاعتراف به ورفض التعامل معه باعتبار ما حصل باطلا وما بني على باطل فهو باطل يجب العمل على إنهائه واستعادة الديمقراطية، وبين من يدعو إلى اعتبار "الحكم الجديد" أمرا واقعا له مؤسساته ومنظوماته لا يمكن نفيه أو القفز عليه تجب معارضته معارضة سياسية ضمن الممكن المتاح من أجل تغيير ميزان القوى لصالح العودة إلى الديمقراطية.
بالرغم من "حسم" الموقف لصالح تثبيت خيار المقاومة بكل متعلقاته ومقتضياته، عاد الجدل حول الخط السياسي أكثر من مرة، وخاصة في المحطّات الهامة التي تبدو فيها محدودية هذا الخط في تحقيق الأهداف التي تعلقت به، وأهمها التقدّم فعليا في تغيير ميزان القوى لصالح القوى الديمقراطية، واستعادة ثقة التونسيين في العمل الحزبي وتعبئتهم ضمن شارع ديمقراطي واجتماعي ضاغط. ويرى المعارضون لخط المقاومة السياسية والمدنية أن الأمر لا يتعلق بمجرد محدودية هذا الخط في تحقيق الأهداف المرجوّة منه، وإنما يتعلق بمأزق الخيار ذاته لأنه أبقى القوى الديمقراطية خارج سياق وفضاءات الفعل السياسي الحقيقي بناء على مفاصلة تكون تامة وحادة بينها وبين "الحكم الجديد" جعلتها تقاطع محطات "مهمّة" مثل الاستشارة الوطنية والاستفتاء على الدستور والانتخابات التشريعية، وربما أيضا الانتخابات الرئاسية خريف السنة القادمة.

3. توزيع السياسة بين "النهضة" وجبهة الخلاص الوطني لا يزال يمثل إشكالية معروضة على قيادة "النهضة" تبحث لها عن صيغة وترتيبات تحافظ بها الحركة عن خصوصياتها كحزب سياسي له مرجعياته ومواقفه ورؤيته التي تميّزه عن بقية الطيف السياسي، بما في ذلك جبهة الخلاص الوطني التي تعتبر "النهضة" أحد أهم مكوّناتها ضمن مجموعة من القوى الديمقراطية المعتدلة من أحزاب وتنظيمات مدنية وشخصيات وطنية. يفتح الخط السياسي لحركة النهضة على ثنائيةٍ، طرفها الأول العمل الجبهوي ضمن جبهة الخلاص الوطني وطرفه الثاني العمل السياسي الحزبي، وهي معادلة دقيقة يحتاج النجاح فيها توزيعا واضحا للسياسة بين حركة النهضة وجبهة الخلاص الوطني، يبقي للأولى صفتها السياسية ويعزّز أداءها ويمنح الثانية المساحة والإمكانات اللازمتين لبناء مشروع وطني واسع ومفتوح أمام كل القوى الديمقراطية المعتدلة، على اختلاف مرجعياتها وتجاربها السابقة.

جاء 25 جويلية 2021 ونقل حركة النهضة من الحكم إلى المعارضة، وتحركت مع ذلك الملفات القضائية ضدها وضد وقياداتها

4.    الانحسار الهيكلي والتنظيمي، وهو مشكل طارئ على حركة النهضة في حجمه وسياقاته وتداعياته. من المعلوم أن "النهضة" مثّلت إلى غاية إجراءات "25 جويلية"، أكبر حزب سياسي في البلاد، يتمتع بقاعدة واسعة من الأعضاء، وإن بدأت في التراجع في السنوات الأخيرة وبتمثيلية في كل المدن والأرياف على طول البلاد وعرضها جعلها الحزب الوحيد الذي له نواب في البرلمان في كل الدوائر الانتخابية السبع والعشرين بين الداخل والخارج، ومستشارون بلديون في كل المجالس المحلية البالغ عددها ثلاثمائة وخمسين مجلسا.
جاء 25 جويلية (2021) ونقل حركة النهضة من الحكم إلى المعارضة، وتحركت مع ذلك الملفات القضائية ضدها وضد وقياداتها، وتمّ التضييق على الحقوق والحرّيات وبدأت تسود أجواء من القلق والخوف لدى شرائح واسعة من الناشطين السياسيين من بينهم أعضاء النهضة. كان من الطبيعي أن تدخل هذه التغيرات والمناخات الجسم النهضوي في ديناميكية من الانحسار المتدرج يرتفع نسقه ويتوسع مداه كلّما زادت قبضة الحكم الجديد وتتالت إجراءاته التعسّفية في التضييق على الحرّيات، وفي انتهاك الحقوق بالاعتقالات والملاحقات والمنع من السفر و"الهرسلة" القضائية والأمنية. ومما ساهم في توسّع ديناميكية الانحسار الهيكلي والتنظيمي للنهضة "استقرار" الأوضاع لصالح "الحكم الجديد"، وتقدّمه في إنجاز أجندته رغم معارضتها من المنتظمين السياسي والمدني ورغم مقاطعتها شعبيا من عموم التونسيين، بمن فيهم أنصار الرئيس، فقد عمّق "استقرار" الأوضاع لصالح "الحكم الجديد" و"عجز" المعارضة على تغيير ميزان القوة لصالحها في سيادة حالةٍ من الشكّ في المستقبل، وفي جدوى الاستمرار في النضال سواء في الفضاء العام أو من داخل حركة النهضة وانصرف الكثير من المناضلين لشؤونهم الخاصة، وابتعدوا عن الاهتمام والانخراط في الشأن العام، وهو ما يلاحظه المتابعون في تراجع زخم الشارع الديمقراطي المناهض للحكم الجديد، تراجع يعكس بوضوح تراجع قدرة "النهضة" على تعبئة مناضليها وأنصارها وعموم التونسيين في مشروعها السياسي المعارض، وهو ما فاقم مشكلة قديمة واجهتها النهضة طيلة العشرية السابقة تتعلق بعدم التناسب بين مشروعها السياسي المرتكز على ممارسة الحكم ومحدودية رافعتها التنظيمية والبشرية التي ظهرت غير مؤهلة بالقدر الكافي لتحمّل أعباء الحكم وإدارة الشأن العام.

يمثل وضع الغنوشي ومستقبله في "النهضة" محورا للجدل والخلاف الداخلي حاولت القيادة أن تمسك فيه العصا من الوسط

5. غلق المقرات وفقدان أدوات العمل وتراجع الموارد مثّل أيضا مشكلات طارئة واجهتها قيادة النهضة منذ إجراءات "25 جويلية" ثم تفاقمت أكثر بعد اعتقال رئيس الحركة راشد الغنوشي، وقرار وزير الداخلية غلق مقرّات الحزب، وجعلها على ذمة القضاء لتفتيشها، وهو وضع لا يزال مستمرّا، رغم انتهاء الفرقة المتعهدة من أشغال تفتيش المقرّ. رغم مرور أكثر من ثمانية أشهر على غلق المقرّات بما فيها المقرّ المركزي للحزب، لا تزال قيادة "النهضة" تسعى إلى رفع قرار الغلق واستعادة مقرّات الحزب من خلال مسار القضاء بعيدا عن الضغط الميداني، وهو ما يرى فيه بعض النهضويين مسلكا غير ذي جدوى من شأنه أن يطيل قرار الغلق بحسب أجندة السلطة ومصلحتها طالما أنها متحكّمة بالكامل تقريبا في القضاء، بما يجعل كلفة ذلك ثقيلة على الحزب استنزافا لمقدّراته وتحجيما لأعماله ومناشطه، وانحسارا لجسمه التنظيمي والهيكلي.

6. ترتيب الوضع القيادي باعتباره استحقاقا مهمّا ومستعجلا يرتبط به إلى حدّ كبير راهن النهضة ومستقبلها، ما جعله أهمّ موضوع للخلاف داخل الحزب يراه بعضُهم خطا فاصلا بين الصيغة الراهنة للنهضة والصيغة المأمولة. عرف هذا الموضوع منعرجا كبيرا ونفسا جديدا بعد اعتقال رئيس الحزب راشد الغنّوشي يوم 17 أبريل/ نيسان الماضي، نقل الحديث من البحث عن ترتيب الانتقال القيادي والجيلي إلى ما بعد المؤتمر الحادي عشر وانتهاء العهدة القانونية الثانية والأخيرة لرئاسة الغنوشي للحزب، إلى الحديث عن معالجة الحالة القيادية في ضوء طارئ جديد، وهو غياب الغنّوشي بعد اعتقاله، وهو لا يزال يشغل قانونيا رئاسة الحزب إلى غاية عقد المؤتمر المقبل. كان الأمر مربكا، ولا يزال لقيادة "النهضة" رغم المجهود الكبير المبذول من أجل استيعاب المشكل وإدارة الوضع الجديد بما لا يؤثّر سلبا على أداء الحركة ومناخاتها وتماسكها ووحدة صفها. مرة أخرى، يمثل وضع الغنّوشي ومستقبله في "النهضة" محورا للجدل والخلاف الداخلي حاولت القيادة أن تمسك فيه العصا من الوسط، بحيث تحفظ للغنوشي المعتقل صفته رئيسا للحزب وتنقل جزءا كبيرا من صلاحياته بتفويض منه إلى أمين عام للحزب، وهو منصب منصوص عليه في النظام الأساسي للحزب، وسبق أن شغله في فترات سابقة قيادات من الصف الأول، مثل علي العريض وحمادي الجبالي وزياد العذاري، وكل من الأخيرين استقال من الحزب.

هل سيجعل هذا العرض السياسي الجديد "النهضة" على سكة التطوير من أجل مستقبل أفضل، أم أنه سيعيد إنتاج "النهضة" نفسها بمساحيق جديدة فقط؟

انتخب مجلس شورى حركة النهضة أواخر شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي القيادي المخضرم العجمي الوريمي أمينا عاما للحزب، بناء على لائحة تحدد صلاحياته وعلاقته بالغنّوشي رئيس الحزب وببقية المؤسسات القيادية. أعلن الوريمي بعد انتخابه المعالم الكبرى لتوجهاته وخياراته في إدارة الحركة، كما أعلن تعهّده بالقيام بالإصلاحات المستوجبة لتطوير الحزب من حيث السياسات والهياكل ومناهج التسيير بما ينقله من إدارة المخاطر إلى حوكمة الموارد وإدارة الفرص.
هل سيقدّم العرض السياسي الجديد للنهضة المزمع إعلانه قريبا حلولا ومعالجات لجملة الصعوبات والمخاطر السياسية والحزبية التي تواجهها النهضة والمبيّنة أعلاه؟ هل سينجح هذا العرض في تجديد رؤية "النهضة" وأطروحتها بناء على دروس مستفادة من تجربتها السابقة، وخصوصا تجربتها في الحكم؟ هل سيمكّن هذا العرض الجديد "النهضة" من كسر الأقفاص التي سُجنت فيها، أو التي سجنت فيها نفسها طوال العشرية السابقة، وأن تعزّز، بالتالي، موقعها في المشهد السياسي العام برؤية جديدة واضحة لنفسها، وفهم جديد للفضاء العام وشروط النجاح لإدارة مشروعها السياسي؟ هل ستتجاوز حركة النهضة بهذا العرض الجديد مشكلة التعبير عن مواقفها بأنصاف الجمل؟ أخيرا، هل سيجعل هذا العرض السياسي الجديد "النهضة" على سكة التطوير من أجل مستقبل أفضل، أم أنه سيعيد إنتاج "النهضة" نفسها بمساحيق جديدة فقط؟ وهل ستنجح الحركة في وضع أسس صلبة لتعاقدات جديدة مع شركائها من الديمقراطيين المعتدلين؟ وهل سيساعد هذا العرض الجديد في استعادة "النهضة" ثقة ناخبيها وحاضنتها الثقافية والانتخابية؟

جمال طاهر
جمال طاهر
باحث وإعلامي تونسي في مونتريال، مستشار سابق لرئيس البرلمان راشد الغنوشي