الشيخ كركر المغربي

الشيخ كركر المغربي

26 يناير 2024
+ الخط -

ظهر محمد فوزي الكَركري شيخ الطريقة "الكَرْكَريّة"، هذا الشتاء، في رحلةٍ سياحية إلى جبال الألب السويسرية، بعد ظهوره الصيف الماضي مستلقياً على يخت، وحوله أطباق شهيّة مثل الملوك والأمراء القدامى. وبين رحلتي الصيف والشتاء، يلتقط الشيخ صوراً في وضعياتٍ مختلفة. كأنّه أحد مشاهير "السوشيال ميديا"، لا شيخ طريقة تصطفُّ في منطقة الطرق الصّوفية، وهي أقرب إلى المدرسة السّريالية في اسمها، وملابس مريديها، وسلوك شيخها. لكن أتباع الطريقة، لا يحارون في إيجاد تفسير منطقي لكل شيء، ما عدا الظهور العلني "السّياحي" لشيخهم، الذي له صفحة رسمية في فيسبوك، تنشر أنشطته وصوره. فتبدو طقوس الشيخ الذي يُسمّيه مريدوه "الشيخ المربّي قدس الله سره"، أقرب إلى وصفة للإقبال بنهم على ملذات الحياة، بدل تجنّبها حسب المتعارف عليه في الفكر الصّوفي.

لا يؤدّي ما سبق إلى التّفريط في جدّية طقوس الطرق الصّوفية، التي تُبالغ في منح الشيخ منزلة، وإنما تقدم صورة سلبية عن طقوس الانتماء للمدرسة الصوفية، التي ترتبط بالزهد والابتعاد عن المتع الدنيوية "العابرة". أطرف ما في مظاهر عيش أتباع الطّريقة الكَركرية، هي الجلاليب المرقّعة. و"المرقّعة" أو الخرقة الملوّنة، حسب الطريقة "مظهرُ التّسَتر بالجمال الذاتي الباطن، المتجلّي بألوان حضرة القوس العلوي". وعدا الإشارة إلى ألوان قوس قزح، فالتعبير غامضٌ كعادة جلّ الأدبيات الصُّوفية. لكن تفسير رواد الكركرية، يعطينا صورةً واضحة عن معنى المرقّعة، المنسوب إلى الشيخ ابن عجيبة الصوفي، الذي فسّر الآية القرآنية التي تتحدث عن تغطية آدم وحواء لعريهما المفاجئ، لما أكلا التفاحة المحرمة، "فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة". بأنّهما لبسا كأوّل لباس لهما، "المرقّع" المصنوع من أوراق شجر الجنة الملوّنة، (رغم أنّهم يتحدّثون عن آدم فقط كباقي الخطابات الأبوية). هكذا تقتدي الخرقة الملوّنة التي يلبسها الكركريون الآن، بلباس آدم، بمعنى أنّ غرضه هو ستر العُري فقط. لكن اتسام المرقّعة بكثرة الألوان الصارخة، لا يتماشى مع هذا الغرض الزاهد.

أيّ منّا ممن لا يعرف الطريقة وأصلها سيظن أن اسم الطريقة "الكركرية" من باب الطرافة، وربما جهادٌ للنفس، بحمل اسم يدعو للسخرية، كنوع من التواضع المازوشي، الذي تدعو إليه بعض المذاهب الدينية. نسبة إلى صوت الضحك "كَركَرَ". لكن لا، الموضوع جدّي وله أصل وفصل، نسبة إلى جبل كركر بمنطقة النّاضور الأمازيغية، شرق البلاد، قريبا من الحدود الجزائرية، ولهذا تمتد جذور الطريقة إلى مستغانم في الجزائر.

تُناقض الطريقة، ما مثلته الطرق والزوايا التابعة لها في تاريخها، من وظائف قديمة وجديدة. ومن أهمها، التحكيم في مشكلات الأفراد والجماعات، نظرا لما يرمز إليه شيخ الزاوية من تجسيد للحقيقة والعدالة الدّنيوية والأخروية. والتوسط لتحقيق الصلح بين الأفراد والقبائل، قديماً، لحل مشاكلهم بعضهم مع بعض، أو بينهم وبين ممثلي السلطة. ولتحقيق الصلح أحيانا بين المتنازعين على السلطة.

في الثلث الأول من القرن العشرين، عملت مجموعة من الزّوايا وشيوخها على توحيد القبائل، وتجييش المقاومين، بالتأكيد على البعد الديني للصراع مع المستعمر، خصوصا مع تقديم قبائل كثيرة في المغرب الولاء العشائري على الولاء للدولة. خارج هذا الدور، الزوايا أمكنة عبادة، وهي أيضا مراكز تعليمية قبل نشوء التعليم الرسمي. ورغم وجود تقسيمات طبقية في الزوايا، فهناك زوايا للأغنياء وذوي النفوذ، وأخرى للفقراء وعابري السبيل. لكن كان هناك حد أدنى من مظاهر الروح الصّوفية، وربما كان التجاوز الأكبر يتمثل في تقديس بعض الشيوخ، بشكل لا يقبله لا العقل ولا الرّوح الصوفية.

ورغم التراجع الكبير في الحضور الاجتماعي للطرق الصّوفية، نجا بعضها بالترسّخ في أوساط اجتماعية بعينها، بحيث صار جزءاً منها، خاصة الطريقتان القادرية البُودْشِيشية والتِّيجانية. مع حضور إعلامي يقف خلفه تشجيع الدولة، في مواجهة تيارات الإسلام السياسي، أو المسحة الوهابية للتديّن، بدعم المواسم والملتقيات الصوفية، خصوصا منذ تولي أحد أهم وجوه البودشيشية وزارة الأوقاف. لكن الظهور التّدريجي للطريقة الكركرية كسَر إيقاع "الهيبة" الدينية للطرق الصّوفية، وأظهر أشخاصاً عديدين لم تمنعهم المظاهر السريالية من اتِّباع الطريقة للبحث عن سلامهم الداخلي، ومن نحن لنُنكر على من وجد راحته في "الكركرية" حقه في ذلك.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج