الدكتاتوريات الكاريكاتورية

الدكتاتوريات الكاريكاتورية

12 يونيو 2022
+ الخط -

 لم يعد الزمن نفسه، ولم تعد الحالات السياسية التي كانت قائمةً قبل سنوات على حالها. بعد الثورات العربية وسقوط مجموعات من الدكتاتوريين العرب، وقبلها مع وفاة أو مقتل دكتاتوريين آخرين، ظنّ كثيرون أن زمن الديكتاتوريات العربية ولّى إلى غير رجعة، لكن الوقائع أثبتت عكس ذلك، إذ عادت هذه الديكتاتوريات، لكن بأشكال كاريكاتورية لا تشبه بأي حالٍ الأوضاع التي كانت سائدة عربياً قبل عام 2011. فما هو موجود اليوم دمّر صورة الديكتاتور التي بناها عتاة الزعماء العرب، من أمثال حافظ الأسد وصدّام حسين ومعمّر القذافي، وإلى حد ما حسني مبارك وعلي عبد الله صالح.

يمكن النظر، بداية، إلى الشكل الديكتاتوري الذي ظهر عليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والذي يحمل الكثير من الكوميديا، من دون أن نغفل عن الاستبداد الذي هو المعلم الأساس للديكتاتور. السيسي كان فاتحة هذا الشكل الجديد من الديكتاتوريات التي بدأت تنتشر في العالم العربي. لا يوفر مناسبة للإدلاء بتصريحات خارجة عن سياق أي منطق على الصعيدين الداخلي والخارجي، وحتى على مستوى تجارب الحياة الشخصية التي عاشها قبل توليه الرئاسة، فلا يمكن لأحد أن ينسى الحديث عن حياته عشر سنوات على المياه، والذي جاء في سياق خطاب جدّي جداً، وأمام جمهور لا شك في أنه كتم ضحكاته وصفّق مضطراً إعحاباً بقدرات هذا الزعيم الخارقة. وتتالت بعد ذلك تصريحاتٌ كثيرة مماثلة للرئيس المصري، حتى بات واقعاً معتاداً لا يثير أي استغراب، وبات التعايش مع هذه الحالة الكاريكاتورية الدكتاتورية واقعاً طبيعياً، مترافقاً مع كل الممارسات الاستبدادية التي لا تغيّر الكوميديا الرئاسية أياً من تداعياتها.

ومع تآلفنا مع وجود الرئيس السيسي، خرج علينا الرئيس التونسي، قيس سعيّد، بشكل آخر من هذه "الديكتاتورية الجديدة" غلافه الشعبوية والتقعّر اللغوي، والأداء المسرحي المبالغ فيه، والذي يدفع أيضاً إلى التعاطي مع صاحبه باستخفاف. لكن هذا الأداء أو الاستخفاف لا يلغيان خطورة ما يقوم به سعيّد على الصعيد التونسي، ونظام حكم الفرد الذي يسعى إلى تمكينه بعد احتكاره كل الصلاحيات وحله الحكومة والبرلمان، وتعيين حكومةٍ بديلةٍ تأتمر منه مباشرة، في خرقٍ لكل ما سعى التونسيون إلى بنائه بعد الثورة التي أطاحت زين العابدين بن علي.

كثيرة أيضاً هي المواقف التي طبعت أداء سعيّد، فلا يمكن نسيان تكليفه مدير مكتبه بتسليم "هذا الكتاب الساعة إلى صاحب البريد"، وهو ما أثار الكثير من التندّر بين العرب والتونسيين، ولكن ذلك لم يمنع سعيّد من التمادي في تسلطه، وحتى زيادة جرعة الأداء المسرحي هذا في كل ظهور علني له.

اللافت أن هذه الديكتاتوريات، ورغم هيكلها الهزلي، إلا أنها تتصرّف بوقاحة وأريحية غير مسبوقتين، خصوصاً مع تأكّدها أن كل أفعالها لم تعد تثير حفيظة الدول الغربية، بل على العكس باتت هذه الدول، أو بعضها، تجد نفسَها في حاجةٍ إلى مثل هذه الديكتاتوريات لتحقيق مصالحها. إضافة إلى ذلك، هناك رغبة غربية بعدم تدحرج الأمور في بعض الدول العربية إلى الوضع الذي أصبحت عليه بعد ثورات "الربيع العربي"، وبالتالي فهي حريصة ضمناً على رعاية وتنمية هذه النماذج الجديدة من الديكتاتوريات. ففي أعقاب الانقلابين اللذين قام بهما السيسي وسعيّد، لم تكلف هذه الدول نفسها اتخاذ أي إجراءات لـ"حماية الديمقراطية"، بل على العكس اتخذت مواقف كثيرة مائعة شجّعت الرئيسين على التمادي في تسلطهم وبناء هيكلهم الاستبدادي، وإنْ في إطار "كاريكاتوري".

حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب مدير قطاع الإعلام في فضاءات ميديا، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".