التهم الجنائية الموجّهة ضد ترامب

التهم الجنائية الموجهة ضد ترامب ... خلفيّاتها وتداعياتها المحتملة

11 ابريل 2023

ترامب في مؤتمر صحفي في ويست بالم بيتش في ولاية فلوريدا (4/4/2023/Getty)

+ الخط -

وجّهت هيئة محلّفين كبرى في مدينة مانهاتن في ولاية نيويورك، في 30 آذار/ مارس 2023، لائحة اتهام للرئيس السابق دونالد ترامب، تتضمن 34 تهمة، منها أنه زوّر السجلات التجارية لشركته في نيويورك لتقويض نزاهة الانتخابات الرئاسية عام 2016، عبر دفع أموال لشراء صمت ممثلتين إباحيتين تقولان إنه كان على علاقة بهما قبل سنوات طويلة. ورغم أن القانون لا يحظُر مثل هذه السلوكيات إذا كان المبلغ المدفوع من المال الخاص للشخص المعني، فإن الادّعاء يقول إن ترامب دفع تلك المبالغ، عبر محاميه الخاص حينها، مايكل كوهين، من حساب حملته الانتخابية الرئاسية، وسجّلها بوصفها "نفقاتٍ قانونية" على شركته، من خلال التلاعب بسجلاتها التجارية، بـ "هدف إخفاء جريمة أخرى"، باعتبارها جزءًا من مخطّط لانتهاك قوانين الانتخابات الفدرالية والولائية، وكذلك قوانين ضرائب ولاية نيويورك. وتتضمّن لائحة الاتهام أيضًا تهمة "التآمر". وتعدّ هذه القضية سابقة في الولايات المتحدة، حيث لم يحصل أن واجه رئيس أميركي سابق أو في السلطة تهمًا جنائية. وقد سلّم ترامب نفسه، في 4 نيسان/ أبريل 2023، لمكتب مدّعي عام مانهاتن، ووُضع رهن الاعتقال شكليًا، فترة وجيزة، قبل أن ينتقل إلى المحكمة حيث وجّهت إليه الاتهامات رسميًا. 

محاكمة ترامب وتعاظم الانقسام السياسي

نظرًا إلى أن المدعي العام لمقاطعة مانهاتن، ألفين براغ، ديمقراطي، وكان قد تعهّد في حملته الانتخابية بملاحقة ترامب قانونيًا، وبسبب التعقيدات القانونية للقضية التي بنى عليها لائحة الاتهام، وبالنظر إلى أن ترامب مرشّح للرئاسة عام 2024، فقد عزّز ذلك الانقسام القائم أصلًا لدى الرأي العام الأميركي، بعد أن ادّعى ترامب أنه ضحية ملاحقات سياسية، وأن التهم الموجهة إليه لا تستند إلى أرضية قانونية. ويبدو الانقسام واضحًا في الموقف من محاكمة ترامب في استطلاعات الرأي. وتبيّن ثلاثة استطلاعات رأي نُشرت بعد توجيه لائحة الاتهام لترامب، أن غالبية الأميركيين يؤيّدونها (51% في استطلاع Morning Consult ، و45% في استطلاع ABC News /Ipsos ، و60% في استطلاع CNN / SSRS ). وفي الاستطلاعات الثلاثة، قال ما بين 30% و40% إنهم يعارضونها. وعند سؤالهم عمّا إذا كانوا يعتقدون أن لائحة الاتهام ذات دوافع سياسية، قال 52% ممن شاركوا في استطلاع CNN /SSRS إن السياسة أدّت دورًا "رئيسًا" فيها، بينما قال 76% منهم إنها أدّت دورًا ما على الأقل. أما استطلاع ABC News /Ipsos فوجد أن 47% من الأميركيين يعتقدون أن الاتهامات كانت ذات دوافع سياسية. ووجد استطلاع Morning Consult أن 46% من الأميركيين يعتقدون أن قرار هيئة المحلفين الكبرى باتهام ترامب يعود إلى أنه ارتكب جريمة، في حين رأى 43% أن الهدف من ذلك إلحاق ضرر سياسي به.

لم يحصل أن واجه رئيس أميركي سابق أو في السلطة تهمًا جنائية

ويظهر الانقسام أوضح بين الأميركيين على أسس حزبية. فقد أظهر استطلاع CNN /SSRS أن واحدا فقط من بين خمسة جمهوريين، وواحدا من بين أربعة محافظين يوافق على لائحة الاتهام. أما غالبية المستقلين (62%) والديمقراطيين (94%) فيؤيدونها. ووجد استطلاع رأي آخر أجراه كل منMarist College, NPR  وThe Public Broadcasting Service ، أن 80% من الجمهوريين يعتقدون أن ترامب ضحية استهداف سياسي.

حظوظ ترامب الانتخابية ومعضلة الجمهوريين

يرى مراقبون أن لائحة الاتهام ضد ترامب ربما تعزّز حظوظه في الانتخابات التمهيدية للظفر ببطاقة الترشح عن الحزب الجمهوري لانتخابات 2024 الرئاسية. وتفيد استطلاعات الرأي بأن غالبية القاعدة الناخبة الجمهورية تقف وراء ترامب، وتصدّق أو تدّعي على الأقل أنها تصدّق مزاعمه إنه ضحية اضطهاد سياسي من الديمقراطيين و"الدولة العميقة". وتذكر حملة ترامب الرئاسية أنها تمكّنت من جمع ثمانية  ملايين دولار خلال أربعة أيام فقط من توجيه التهم الجنائية إليه. وأمام هذا التعاطف الجمهوري الواسع، اضطرّ منافسوه الجمهوريون المحتملون على الرئاسة، مثل حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس، ونائب الرئيس السابق مايك بينس، والسفيرة الأميركية السابقة في الأمم المتحدة نيكي هيلي، إلى الاصطفاف خلفه، في انتظار تطوّرات قانونية في هذه القضية، أو في قضايا جنائية فدرالية أشدّ خطورة تزيح ترامب من واجهة المشهد السياسي. ومن التهم الخطيرة التي يواجهها ترامب التحريض على اقتحام مبنى الكونغرس في 6 كانون الثاني/ يناير 2021، ومحاولة الضغط على المسؤولين في ولاية جورجيا خلال الانتخابات الرئاسية، عام 2020، لتعديل النتيجة لصالحه، وعثور مكتب التحقيقات الفدرالي في مقرّ ترامب في ولاية فلوريدا على وثائق مصنّفة "سرّية" أو "سرّية للغاية" أخذَها معه بصورة غير قانونية لدى خروجه من البيت الأبيض، إضافةً إلى قضايا تجارية ومدنية أخرى.

وتتمثل معضلة الجمهوريين في أن استطلاعات الرأي تُظهر أن ترامب سيكون مرشّحًا ضعيفًا على المستوى الوطني في انتخابات 2024، لكنه الأقوى لدى القاعدة الانتخابية للحزب الجمهوري، وهي ستمكّنه على الأرجح من الفوز ببطاقة الترشّح في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري. ويفيد استطلاع لمزاج الناخب الأميركي أجرته "سي أن أن"، بعد توجيه لائحة الاتهام لترامب، أن 34% من الأميركيين يقولون إن رأيهم إيجابي فيه، في حين ينظر إليه 58% نظرة سلبية. وأفاد استطلاع لـ Morning Consult بأن 58% من الأميركيين لا يريدون أن يترشّح ترامب مرّة أخرى، في حين أيد ذلك 37% فقط. إلا أن الأمر مختلف داخل الحزب الجمهوري، حيث أظهر استطلاع للرأي أجرته Yahoo News/ YouGov للناخبين الجمهوريين، وذوو الميول الجمهورية، عند إعلان توجيه اتهامات لترامب أنه يتقدّم بـ 26 نقطة على أقرب منافسيه الجمهوريين، ديسانتيس، بزيادة 18 نقطة عن أسبوعين سابقين. ويؤكّد استطلاع آخر أجرته كوينيبياك أن 72% من الجمهوريين يرون أن ترامب "كان له تأثير إيجابي على نحو أساسي" في الحزب الجمهوري، بينما قال 79% إنهم يعتبرون أنفسهم أعضاء في حركة ترامب. لكن الاستطلاع نفسه يُبرز حجم التعقيدات التي يواجهها الجمهوريون، إذ يظهر تقدّم ديسانتيس بين الناخبين الأميركيين على ترامب في كل قضية.

وفقا لاستطلاعات رأي، 47% من الأميركيين يعتقدون أن الاتهامات ضد ترامب  ذات دوافع سياسية

دفع إدراك الجمهوريين هذه المعضلة عددًا منهم إلى التصريح أو التلميح بضرورة أن يكون هناك مرشّح آخر عن الحزب إذا كان لهم أن يفوزوا بانتخابات 2024، والتي دعا رئيس مجلس النواب الأميركي كيفين مكارثي إلى جعلها استفتاءً على جو بايدن، وليس على أي شيء آخر. لكن المدى الطويل الذي ستأخذه القضية التي يواجهها في نيويورك، بعد أن حدّد القاضي بدْء مداولاتها مطلع العام المقبل، يعني أن ترامب سيحظى بتغطية إعلامية واسعة في عام انتخابي، ما يحدّ من قدرة منافسيه في الحزب الجمهوري على انتقاده وهو يواجه ما يزعم إنه حملة "اضطهاد سياسي" ضده، ويبقى أملهم الرئيس أن يُدان بتهم جنائية تُضعف قدرته على متابعة حملته الرئاسية.  

ورغم أن بعض الديمقراطيين يبدون رغبةً ضمنيةً في أن يكون ترامب على رأس قائمة مرشّحي الحزب الجمهوري لانتخابات عام 2024، على أساس أنه سيكون المرشّح الأضعف، فإنّ بعضا آخر يتوجّس من احتمال تكرار سيناريو انتخابات عام 2016، والتي استطاع فيها ترامب هزيمة المرشّحة الديمقراطية، حينئذ، هيلاري كلينتون، والتي كانت جلُّ استطلاعات الرأي ترجّح فوزها. لكن الواقع أن ثمَّة فارقًا بين انتخابات 2016 و2024؛ فالناخبون لم يكونوا يعرفون ترامب عام 2016 كما يعرفونه اليوم، حينها كان يبدو كنجم تلفزيوني ورجلَ أعمال ناجحًا، ولكنه اليوم مرشّح مطارد بالدعاوى القانونية والفضائح السياسية والتجارية والجنسية، فضلًا عن أدائه السياسي وعلاقاته بروسيا، التي صنعت صورته على مدى السبع سنوات الماضية. كما أن بعض الأميركيين الذين يشعرون بالمسؤولية تجاه الديمقراطية الأميركية يهمهم ألّا تمر جرائم ترامب، وتجربته عمومًا، من دون محاسبة، بغضّ النظر عن فوز بايدن أو ديسانتيس.

ماذا لو دين ترامب وفاز في الانتخابات الرئاسية؟ 

رغم أن هذا الاحتمال لا يبدو مرجّحًا، فإن السؤال بات مطروحًا عن احتمال أن يفوز ترامب بالانتخابات الرئاسية، رغم إدانته في واحدة أو أكثر من التهم الموجهة إليه. من الناحية الدستورية والتقنية، لا يوجد نصّ دستوري أو قانوني يمنع المجرمين من الترشّح للرئاسة أو لأي منصب عمومي. ويحدّد الدستور الأميركي في المادة الثانية، القسم الأول، البند الخامس، بلغة واضحة المؤهلات المطلوبة في أي شخص لشغل منصب الرئاسة، وهي ثلاثة: أن يكون مواطنًا أميركيًا مولودًا في الولايات المتحدة، أن لا يقلّ عمره عن 35 عامًا، أن يكون مقيمًا في الولايات المتحدة مدة 14 عامًا. ولا يملك الكونغرس تغيير هذه الشروط، إلا عبر تعديل الدستور الأميركي، وهي مسألة شديدة التعقيد ولها إجراءات خاصّة، تتجاوز الكونغرس. ومع ذلك، يستبعد القسم الثالث من التعديل الدستوري الرابع عشر أي شخص من تولي منصب فدرالي، مدني أو عسكري أو ولائي "إذا سبق له أن أقسم اليمين بوصفه عضوًا في الكونغرس أو موظفًا لدى الولايات المتحدة باعتباره عضوًا في مجلس تشريعي لأي ولاية أو موظفًا تنفيذيًا أو عدليًا في أي ولاية، بتأييد دستور الولايات المتحدة، واشترك بعد ذلك في أي تمرّد أو عصيان ضدها، أو قدّم عونًا ومساعدة لأعدائها. ولكن يمكن الكونغرس، بأكثرية ثلثي الأصوات في كل من المجلسين أن يزيل مثل هذا المانع". تكمن أهمية التعديل الرابع عشر في أن وزارة العدل تحقّق حاليًا مع ترامب بشأن دوره في اقتحام أنصاره مبنى الكونغرس بعد خسارته الانتخابات الرئاسية، وفي محاولة منع تنصيب بايدن رئيسًا. وكانت لجنة التحقيق النيابية في تلك الأحداث أحالت القضية إلى وزارة العدل بوصفها "تمرّدًا". لكن هذه الاحتمالية تواجه تحدّيات؛ إذ إن التعديل الرابع عشر في حاجة إلى تشريع من الكونغرس لإنفاذه، وهذا غير متوقّع في ظل سيطرة الجمهوريين على مجلس النواب. كما أنه يقع على عاتق الادّعاء إثبات أن أحداث كانون الثاني/ يناير 2021 كانت بالفعل تمرّدًا وأن ترامب حرّض عليه.

تكشف كل فضيحة من فضائح ترامب عن ثغرات في الدستور الأميركي

ورغم أنه لا توجد سابقةٌ بفوز مرشّح رئاسي وهو في السجن، فإنّ بعض المراقبين يتوجّسون من هذا السيناريو، بالرغم من ضعف احتمالات فوز ترامب، علمًا أنه سبق لمرشّحين فدراليين وولائيين (لغير منصب الرئاسة) الفوز بالانتخابات وهم وراء القضبان. وإذا تحقَّق ذلك مع ترامب، تبرُز آليتان للتخلص من رئاسته. الأولى، أن يُفَعِّل نائب الرئيس وأغلبية أعضاء مجلس الوزراء التعديل الدستوري الخامس والعشرين على أساس أن الرئيس عاجزٌ عن أداء واجباته. وهذا ليس بالأمر الهين أيضًا؛ فالدستور الأميركي لا يحدد مكانًا معيّنًا لممارسة مهمات الرئاسة، وسيكون على الكونغرس أيضًا أن يقرّ هذا الأمر بغالبية الثلثين. والآلية الثانية، أن يلجأ الكونغرس إلى القسم الرابع من المادّة الثانية من الدستور لعزل ترامب وإقالته، ولكن هذا لن يحصل في ظل سيطرة الجمهوريين على مجلس النواب.

خاتمة

تحوّل ترامب، على مدى ثماني سنوات، إلى كابوسٍ مرهقٍ للنظام السياسي الأميركي، مهدّدًا بناءَه الديمقراطي، وهو ماضٍ في ذلك رغم كل التهم والفضائح التي تلاحقه بفعل هجومه المستمرّ على المؤسسات السياسية والقضائية والأمنية الأميركية وطعنه في شرعيتها. وتكشف كل فضيحة من فضائحه عن ثغرات في الدستور الأميركي، إذ لم يفكّر واضعوه أن ينتخب الجمهور شخصًا مماثلًا لرئاسة الولايات المتحدة. إنه يتصرّف تجاه الدستور والقانون مثلما يتصرّف في أعماله مستغلًا الثغرات في النظام الضريبي. ولكن النظام السياسي مسألة مصيرية، ويصعب تخيّل أن هذا النظام لن يدافع عن نفسه. ريثما يحصل ذلك بإجراء التعديلات اللازمة، لن ينتهي هذا التحدّي إلا إذا حزم الجمهوريون أمرهم على ضرورة التخلّص من هيمنة ترامب على الحزب الجمهوري وعمدوا إلى تفكيك سرديته بأنه "ضحية" ملاحقات سياسية، بعد أن صار يمثّل تهديدًا ليس فقط للحزب الجمهوري ووضعه في النظام السياسي الأميركي، بل للديمقراطية الأميركية نفسها واستقرارها السياسي والاجتماعي.