الافتراض والزمن الثابت

الافتراض والزمن الثابت

18 يونيو 2022
+ الخط -

هل كان مارك زوكربيرغ وزميله إدوارد سافيرين يتوقعان أن يتحوّل الموقع البسيط الذي أنشأه لطلاب جامعة هارفارد إلى أكبر وأوسع وأشهر منصّة إلكترونية عابرة للقارّات يتم تحديث آلياتها بشكل شبه يومي، ويضاف إليها كل ما ينتجه الخيال البشري في عالم الافتراض، وتأخذ شكل الحياة البديلة للبشر الذين يقضون أوقاتا طويلة خلف الشاشة للتواصل والاجتماعات والتسوّق وزيارة المتاحف والمعابد والآثار والقراءة والتعلم والمشاركة في الورش التدريبية، وكل ما نفعله في حياتنا حاليا عبر وسائل التواصل، بعدما أصبحت حياتنا الاجتماعية الواقعية مرتبطةً، الى حد بعيد، بعالم الافتراض، وأصبح تواصلنا الجسدي مع الآخرين شبه محدود، ما زاد في عدد حالات الاكتئاب في العالم وفي عدد المنتحرين، (الأسباب مختلفة ومتعدّدة طبعا)، لكن للعزلة والإحساس بالوحدة دورا رئيسا فيها.

هل كان لمنصة فيسبوك وما يرتبط بها من مواقع تواصل أخرى أن تبقى محصورة بالتواصل الاجتماعي، كما أريد لها حين أطلقت، في ظل الأحداث العاصفة التي اجتاحت العالم منذ بداية نهاية عشريته الأولى: الربيع العربي والحروب التي تلته والتغيرات الكبرى التي حصلت للشعوب التي تبنّت فكرته وحلم الخلاص، اللجوء وما نتج عنه من متغيرات في المجتمعات المستضيفة، التحالفات الدولية السياسية والاقتصادية والعسكرية، الانقسامات المهولة بين اليمين واليسار وصعود المد الديني الراديكالي في العالم العربي وفي العالم الغربي، كوفيد 19 والأثر المهول الذي تركه على سيرورة حياة البشرية والأزمة الاقتصادية الكبرى التي خلفها وجوده، الحرب التي شنها الرئيس الروسي بوتين على أوكرانيا، وموجة اللجوء الجديدة، والأزمة الاقتصادية الجديدة التي أدت إلى تضخم اقتصادي يعاني حاليا العالم كله من آثاره الكارثية ويتحدث خبراء الاقتصاد عن أزماتٍ أشدّ وطأة قادمة في الاقتصاد العالمي، ما يعني المزيد من التوترات السياسية والاجتماعية في المجتمعات التي شهدت موجات لجوءٍ كثيفة خلال العقد الماضي وبداية الحالي، ما يعني أيضا ازدياد عدد الفقراء والعاطلين من العمل، ما ينذر بمستقبل كارثي لا يترك أي بادرة للتفاؤل لدى شعب أو مجتمع. وسط هذه الكوارث والنكبات والهزائم الشخصية والعامة، ووسط ما يخلفه ذلك كله من عزلة نفسية ومادية وخوف وهواجس وإحساس بفجوة نفسية كبرى تجاه كل المسلمات والبديهيات، سوف تكون منصة فيسبوك المتاحة بشكل شبه مجاني لجميع البشر البديل الوحيد عن توقعاتٍ كثيرة حملتها البشرية بخصوص المستقبل، وسقطت كلها مع سقوط أحلام التغيير والتعويل على صوابية سياسية دولية اتضح أنها افتراضية هي الأخرى، مثلها مثل قيم كثيرة كشفت أحداث العقد الماضي أنها مجرّد شعارات فارغة، كالحرية والعدالة والحقوق.

يمكن القول إنه بسبب فشلنا وعجزنا عن فهم (واستيعاب) ما حدث لنا وما استجد على حياتنا (ولا سيما نحن العرب ومن لفّ لفيفنا) وجدنا في وسائل التواصل، ولا سيما "فيسبوك" ما يعوّض عن الفراغ المهول الذي خلفته خسارتنا الكبيرة، تحوّل عالم الافتراض إلى وطن ومجتمع بديل، نحمله كل ما نحمل في دواخلنا: أحزاننا ومخاوفنا وغضبنا وأحفادنا وخلافاتنا وتشتتنا ورغباتنا، نسجّل على فضائه ما اعتدنا تسجيله في دفاتر يومياتنا الخاصة والسرّية. نتجمّع فيه أيضا مسيّرين بغريزة قطيعةٍ تستغني عن استخدام العقل والتفكير، نختلق حكاياتٍ عن أحد ما، ونلفق له التهم ونشتمه ونهدّد بقتله ونعدمه معنويا. وقد يتطوّع أحدنا نتيجة التحريض لتحويل الافتراض إلى واقع، ويعدمه فعلا. نحكي بصراحة عن خططنا ونيتنا لفعل شيءٍ ما، قد يكون هذا الفعل ارتكاب جريمة أو فعل شائن. نفعل كل شيء في هذا الفضاء الغريب، وكأننا عبره ننتقم من الحياة وما فعلته بنا، متحصّنين بأن لا أحد يرى وجوهنا لحظة ارتكاب فعل الفضح أو البوح أو التلفيق أو التزوير أو التحريض أو الترهيب أو التهديد، كما لو كنّا أشباحا أو لامرئيين، ما يجعلنا نعتقد أننا سننجو من المحاسبة والعقاب، إذ من سيحاسب كائنا افتراضيا لا ملامح له، يكتب عن نفسه معلوماتٍ مزيفة بالكامل، ولا تمت للواقع بأي صلة؟

والحال أن عالم الافتراض، بمنصّاته كلها، يشبهنا، بل هو نحن حاليا، بكل البؤس الذي يغلّف حياتنا ويجعلنا كائناتٍ لا تتسع روحها، لا للاختلاف ولا للتسامح، هو صورة عما نعانيه وصورة عما نفكر به وصورة عن أوهامنا عن الماضي والحاضر والمستقبل، هو الزمن الثابت في مواجهة الوقت الذي يجري ويجرفنا معه، من دون أن نفكّر بخطورة ما نتركه في ثبات الزمن.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.