إسرائيل أوروبية قيد التأسيس

إسرائيل أوروبية قيد التأسيس

18 يوليو 2023
+ الخط -

لم يكن الانطباع الأولي، الذي تشكّل لدى أكثرية المراقبين فور إعلان قمّة حلف الناتو في عاصمة ليتوانيا، عن تقديم الدول الصناعية السبع الكبرى ضمانات أمنية طويلة المدى لأوكرانيا، زائفاً عند من قرأوه على أنه بيان تأسيسي مفصل، بجدول زمني محدّد، لتخليق دولة إسرائيلية جديدة في شرق أوروبا، تحاكي سابقتها القائمة في الشرق الأوسط من عدّة أوجه، تتنكّب دروب إقامة الثكنة الأولى خطوة بخطوة، وتماثلها من حيث الغاية والنشأة والوظيفة والدور المختلف باختلاف المكان، المتطابق إلى أبعد الحدود مع الهدف النهائي للمنتج المنفّذ المخرج نفسه، أي للغرب الاستعماري ذاته بشحمه ولحمه، وذلك وفق ما تستبطنُه خطّة زرع شوكة فولاذية حادّة في الخاصرة الروسية، لاحتواء الدبّ السيبيري وتستنزف دمَه قطرة قطرة.
ومع أن ربيبة الغرب هنا لم تنل عضوية حلف شمالي الأطلسي مثلها مثل أوكرانيا، ولم تتمتّع بمظلته النووية أيضاً، لكنها ظلت تحظى بأفضل ما يمنحه حلف الأقوياء هذا لأعضائه من ميزاتٍ أمنية وتسليحية وموارد مالية، وفوق ذلك حماية سياسية ودبلوماسية، وفّرت لآخر دولة احتلال قدرات هائلة للتوسّع والعدوان من دون خشية من مساءلة، وحقّقت لها تفوّقاً نوعياً على محيطها الإقليمي كله، الأمر الذي أوجد منها نموذجاً يُحتذى به لإملاء المواقف على الغير بالقوة العسكرية المجرّدة، وفرض الحقائق على الأرض بمنطق الغلبة والإكراه.
والحق أنّ إسرائيل الثانية هذه قد اجتازت، في واقع الأمر، مرحلة التأسيس منذ مدّة، وبلغت درجة متقدّمة من حيث النشأة الكيانية، بعدما نجح الرئيس الأوكراني في لفت انتباه داعميه الغربيين إلى النموذج الذي كان يستهوي قلب فولوديمير زيلنسكي منذ بدء الغزو الروسي لبلاده، حين دعا، في ذلك الوقت المبكّر، إلى إقامة ما سمّاه النص الحرفي "إسرائيل أوروبية"، في إشارة إلى ما تحوزه محبوبة روحه هذه من أسلحة وتكنولوجيات حربية، تدفّقت في معظمها من الترسانة الأميركية، فيما واصل الممثل الكوميدي السابق ضغوطه الملحّة، أو قل ابتزازاته، للحصول على السلاح والعتاد والمال اللازم لصدّ غزاة بلاده.
كلّ ما حدث بالأمس في ليتوانيا أنّ الغرب نفخ من روحه الاستعمارية في أوصال الكيان الإسرائيلي قيد التأسيس هذا، ومنحه شهادة ميلاد قانونية ممهورة بتواقيع سبعة رؤساء دول كبرى مدجّجة بالحديد والنار والتسيّد، من خلال "ضمانات أمنية طويلة المدى" معلومة الوسيلة والغاية، على غرار ما خصّ به الأوروبيون، ومن بعدهم الأميركيون، الدولة العبرية منذ قيامها قبل نحو 75 سنة مليئة بالعدوان وسفك الدماء والتوسّع، ليس ضد الفلسطينيين هذه المرّة، وإنما ضد روسيا الاتحادية، التي وقعت في المصيدة قبل أزيد من 500 يوم، وراحت تواجه على طول الخط حرباً بالوكالة، ليس مع جيوش الغرب وجهاً لوجه، وإنما مع أحدث ما لدى داعمي زيلنسكي هؤلاء من تكنولوجيات حربية فتّاكة.
إذا كانت موسكو ماضية في ما تسميها "العملية العسكرية الخاصة" من دون تبصّر بالعواقب، ولا سيما بعدما ألقت أميركا بكامل وزنها الهائل وراء أوكرانيا، وأخذت تُعمّد بلداً أكبر من إسرائيل الأولى، ديمغرافياً وجغرافياً، وربما أشد شراسة، تحت شعار صدّ غزو مدان سياسياً وأخلاقياً، فان ذلك كله لا يحرف الأنظار عن حقيقة أن إعادة تكوين دولة تحاكي دولة فاشية تحتل شعباً آخر، واعتبارها نموذجاً يُحتذى به لمقاومة احتلال أجنبي، أمر لا يبعث في المرء مشاعر التضامن غير المشروط مع القضية الأوكرانية المحقّة موضوعياً، والعادلة كلياً، على الأقل في نظر شعوب هذه المنطقة، التي تتطيّر بشدة من كل ما يتشابه مع دولة احتلالٍ فوق القانون، تصادر أبسط حقوق الفلسطينيين المشروعة؟
وهكذا، لا تعني هذه المقاربة بالضرورة القطعية أن لدى كاتب هذه السطور موقفاً مستجدّاً مغايراً لموقفه المبدئي الأخلاقي، القائم على اعتبارات أساسية لا تتبدّل، مفادها أن الاحتلال هو الاحتلال أياً كانت هوية أصحابه، وأياً كان زمانه ومكانه، وأن الاستقواء على بلد صغير، ومن ثمّة غزوه بذرائع ملفقة، على نحو ما جرت عليه الحرب الروسية على الجمهورية السوفييتية السابقة، أمر يجب أن يُدان بصريح العبارة، ومن دون تحفظ، سواء أكان ذلك في فلسطين بالأمس البعيد، أم في أوكرانيا اليوم، فليس هناك احتلال حلال واحتلال حرام، خصوصاً إذا وقع الغزو بمسوّغات الحرب الاستباقية الوقائية، للتغطية على أطماع توسّعية معلنة، والتستر على تحقيق أهداف إمبراطورية معلنة.