أُحجية سليمان دَغَش

أُحجية سليمان دَغَش

12 يناير 2024
+ الخط -

لم يعُد صاحب الاسم أعلاه يُعرََّف بأنه شاعرٌ فلسطيني، يقيم في بلدته في الداخل المحتلّ في 1948، من مواليد 1952، له عدّة مجموعات شعرية (1978 – 2023). صار تعريفُه أنه الشاعر الذي رثى (نثراً)، في تأبينٍ مُعلَنٍ مُصوّر، جنديّاً في الجيش الإسرائيلي. وهذه فعلةٌ غير مسبوقة، استحقّ بسببها سليمان دَغَش بعض شُهرةٍ أحرَزه أخيراً، بعد أن انقتل هذا الجندي (رقيب أول)، عن 21 عاماً، في أثناء مشاركته في الحرب على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة. وغزّة عنوان واحدةٍ من قصائد الشاعر، كتَبها في غضون عدوان 2008 ــ 2009، غزّة فيها "... أضيقُ من خُرم إبرة أمٍّ/ تُحاول أن ترتقَ العلم الوطنيّ على دمعِها/ كي تحيك لأبنائها حلماً وحيداً/ ...". الجندي المقتول هناك في غزّة "الجرح/ والملح/ والريح/ والرمح في الخصر/..."، كما تخلع عليها تلك القصيدة، هو حفيد الشاعر. وصفتُه هذه، لا صفتُه يُحارب من أجل قتلٍ أكثر وأكثر في الغزّيين، وتهديمٍ أشدَّ وأشدَّ في حياتهم وبيوتهم، هي ما جعلت دَغش يتفجّع عليه، أمام الجثمان، المًسجّى المغطّى بعلم إسرائيل، وفي جمعٍ غير هيّن العدد، فيه ضبّاطٌ وجنودٌ من الجيش الغازي، فيَسأل: "ألم يكن من العدالة أن أكون أنا مكانك، وأنت مكاني؟". وهذه أحجيةٌ حقّاً، دلّت، أولاً، على فقرٍ في خيال الشاعر الذي يُفترض أنه صاحب مراسٍ في صناعة المجازات والاستعارات، وثانياً، على احتيالٍ مكشوفٍ يُزاوله صاحب هذا السؤال شديد التقليدية، فالمُؤبَّن لم تُزهَق روحُه أمام سيّارةٍ متعجّلةٍ في شارعٍ عريض، بل قنصته يدٌ مباركةٌ، فلسطينيةٌ تدافع عن أطفال غزّة "النائمين"، على ما كانوا في قريحة الشاعر في قصيدتِه تلك. ... كيف، إذن، يستنكر الجدُّ أن العدالة لم تجعله في مطرح الحفيد ... هناك في الحرب على ما لم يقُل تشاطراً.

كأنها أحجيةٌ، إذن، أن تضجّ قصائد دَغش بوفرةٍ بالتعلّق بفلسطين وطناً لأهلها، من الماءِ إلى الماء، كما قال مرّاتٍ، ثم يرى نعش الجندي النظامي في الجيش المحتلّ "طاهِراً"، كما في واحدةٍ من مفردات الأسى في كلمته في جمْع التأبين في المشهد الموثّق. تُراها رابطةُ العشيرة والعائلة والطائفة (لسنا طائفيين في الإشارة إلى انتساب الشاعر إلى طائفة الدروز الموحّدين) أقوى في مدارك الرجل وأفهامه؟ ولكنّه عنونَ آخر مجموعاته "مُنفرِداً بذاتي"، كيف، إذن، يستقيمُ انتفاخُ الشاعر بنفسه، المتخيّل (؟)، على ما يدلّ عليه هذا العنوان الرديء، مع تغليبِه رابطة الأُسرة على رابطة الوطن الواحد التي تصل المغار (بلدة الشاعر) بغزّة وعموم فلسطين؟ والأحجية في وجهٍ آخر لها أن الشاعر المُتحدَّث عنه ناشطٌ في رفض إلزام الفلسطينيين الدروز بالخدمة العسكرية الإلزامية في جيش الاحتلال، وفي تعريف ذائعٍ عنه إنه حُبس أربع سنواتٍ بسبب موقفه هذا. وهذا أيضا حال ولدَيْه اللّذيْن سُجنا أيضاً لرفضهما هذا الأمر. كيف تأتّى له، إذن، أن يتسامَح مع انتساب الحفيد نظاميّاً في الجيش؟ هل ثمّة وجهان لصاحِب "ظلّ الشمس"، الذي أشعرني، في جلسةٍ معه، في عمّان الصيف قبل الماضي، أن فائض الوطنيّة الذي يرفُل فيه واحدٌ من عُدّة قلّة الأدب فيه، وهو يتحدّث بسوءٍ عن رموزٍ فلسطينيةٍ عالية القيمة والمكانة. هل لديه وجهُ الذي يقرِض الشعر للمهرجانات والأسفار، فيستحقّ فيهما تكريماً بعد آخر، ووجهُ الذي لا يرى خِزياً في أن حفيدَه (اسمُه سفيان) ينتسب إلى الجيش القاتل، لتحسين عيشِه، بالامتيازات التي يوفّرها هذا الجيش لعديدِه من العساكر، فالحفيدُ الذي صرعتْه المقاومة الفلسطينية الباسلة اختار ما اختارَه عن رغبةٍ فيه، وفي باله فرصةٌ أفضل سيحوزها في تدبير أحواله، وهو عسكريٌّ في "جيش الدفاع"، كما كثيرون من أقرانِه في بيئتِه. ربما رأى الجدّ الشاعر هذا من بديهيّات الأمور، وغيّب أن "الجنديّة" هنا ارتزاق، كما يحسُن التأكيد.

وجهٌ آخر في أحجية سليمان دَغَش أنه أهدى قصيدة، في 2007، إلى الشهيدة الطفلة إيمان الهمص (13 عاماً) التي اغتالَها، في جريمةٍ غير منسيّة، ضابطٌ في جيش الاحتلال في رفح (قطاع غزّة). القصيدة جيّدةٌ في تشخيص مشهد القتل، لمّا "زخّ رصاص القتلة". وكان قد انكشف أن ضابطاً من الطائفة يقود فرقة القتلة، وأفرغ رصاصاً في جسدِها بعد قتلها. مجازاً، كتب الشاعر في مطلع القصيدة " ...، صرخ الجنديّ الأبله/ الخائفُ حتى ظلَّه، ...".

لم يتبرّأ سليمان دَغَش من حفيده لمّا انتسب هذا إلى الجيش، ثم لم يحسبْه جندياً أبلَهَ خائفاً في غزّة لمّا انقتل. هل يظنُّ نفسه، وهو يكتبُ قصائدَه، يكتُب شعراً عذْباً، وفي باله القولة الركيكة العتيقة "أعذبُ الشعرِ أكذبُه"؟

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.