أكذوبة الفرص الضائعة في الصراع العربي الصهيوني

أكذوبة الفرص الضائعة في الصراع العربي الصهيوني

08 مارس 2024
+ الخط -

بعد قتل وجرح ما يزيد عن مائة ألف إنسان في قطاع غزّة، بدأ الساسة الغربيون يتحدّثون عن حل الدولتين وعن اعترافهم بدولة فلسطينية. هذه ليست المرة الأولى التي تُطرح فيها مثل هذه الحلول التي عادة تكون بهدف تسكين غضب العرب قليلاً حتى تفرغ دولة الاحتلال من تحقيق أهدافها. والمشكلة الحقيقية هي في ترويج هذه الوعود باعتبارها "فرصة" استنادا إلى مقولة مفادها أن تاريخ الصراع هو تاريخ الفرص الضائعة منذ قرار التقسيم في 1947. هذه أكذوبة لا أساس لها، وأبرز مخاطرها اتخاذها منطلقا لتقديم مزيد من التنازلات على أساس أن العرب فوّتوا "فرصا" سابقة للسلام قبل 1948 وبعده. ليست هناك فرص ضائعة في الصراع العربي الصهيوني لأسباب عديدة.

أولا: مَنْ مِنْ العرب كان عليه التفاوض قبل 1948 ومع مَنْ مِنْ العصابات الصهيونية في فلسطين؟ هل كان ينبغي على عرب فلسطين عام 1882 (عشية بدء هجرة الجماعات اليهودية المنظمة إلى فلسطين) وكان عددهم أكثر من نصف مليون نسمة، الجلوس مع يهود فلسطين البالغ عددهم آنذاك نحو ثمانية آلاف نسمة؟ أم كان يجب على عرب فلسطين عام 1896 (وقت ظهور كتاب تيودور هرتزل "دولة اليهود")، وكان عددهم نحو 800 ألف نسمة ويملكون ما يزيد عن 98% من مساحة فلسطين، التفاوض مع يهود فلسطين الذين ارتفع عددهم نتيجة الهجرات المنظمة إلى نحو 25 ألف نسمة ويملكون نحو 2% فقط من مساحة فلسطين؟ أمْ كان على عرب فلسطين عام 1917 (عام صدور وعد بلفور)، وعددهم نحو 920 ألف نسمة، ويملكون نحو 96.5% من مساحة فلسطين، الحديث مع اليهود الذين بلغ عددهم 48 ألف نسمة، وصاروا يسيطرون على نحو 3.5% فقط من المساحة؟ أمْ كان على من تبقى من عرب فلسطين عام 1949 (بعد انتهاء عمليات القتل والتشريد والتهجير خلال حرب 1948 - 1949 وقيام الكيان الصهيوني، وكان عددهم تقريبا 156 ألف نسمة من أصل نحو 750 ألفا كانوا يمثلون سكان فلسطين عشية الحرب) التفاوض مع اليهود الذين صار عددهم بعد قيام الدولة نحو 650 ألف نسمة؟

ثانياً: على ماذا كان يجب على العرب واليهود التفاوض؟ أعلى أن يترك عرب فلسطين، وهم أغلبية، كل أرضهم لجماعات يهودية هُجّرت لفلسطين من كل بقاع الأرض كما أراد جناح من الحركة الصهيونية؟ أمْ على أن يترك العرب ضفتي نهر الأردن (أي فلسطين والأردن أيضا) كما طالب جناح آخر (اليمين الصهيوني)؟

الكيان الصهيوني لم يحدّد لنفسه حدودًا جغرافية. وهذا يتعارض مع ما يتفق عليه فقهاء القانون العام وعلماء السياسة

الحقيقة التي لا يعرفها من يردّد أكذوبة الفرص الضائعة من العرب أن الحركة الصهيونية لم تطرح أبدا فكرة اقتسام الأرض، فقد جاءت للاستيلاء على كل فلسطين عبر إبادة الآخر أو تهجيره. وكما اتضح، من مقال سابق، لم يكن قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947 فرصة ضائعة، وكانت موافقة الصهاينة على مشاريع التقسيم في 1937 و1938 و1947 موافقة تكتيكية، وباعتبار أن قيام دولة على جزء من فلسطين مقدّمة للاستيلاء تدريجيا على البقية. هذا بجانب أن قرار التقسيم مخالف للقانون الدولي، وكان مطلبا صهيونيا للحصول على صكٍّ دوليٍّ بالاعتراف بدولتهم.

ثالثاً: هل كان بإمكان عرب ما قبل 1948، أصحاب فلسطين الشرعيين، التفاوض مع عصابات مسلحة شكّلها المهاجرون اليهود من كل بقاع الأرض وبمساعدة بريطانية لغاية أساسية، كانت محل إجماع كل قيادات تلك العصابات علناً، وهي إبادة العرب في فلسطين وإرهاب من تبقى منهم لدفعهم نحو الهجرة تمهيدًا لقيام دولة يهودية هناك؟ أم كان مطلوبًا من عرب ما بعد 1948 التفاوض مع قادة "دولة" وليدة استطاع جيشها (تكوّن بالأساس من عصابات مسلحة كان ينظر لها إرهابية) عامي 9148 و1949 أن ينفذ قرار التقسيم لعام 1947 بالقوة المسلّحة، بل أن يوسع من مساحة الأرض التي تحت سيطرته من نحو 6% من فلسطين إلى نحو 77%، وأن يدمر أكثر من 400 قرية فلسطينية من أصل نحو 518 قرية تم احتلالها؟ لقد أدرك قادة الصهيونية أنه من غير الممكن تطبيق قرار التقسيم إلا بالقوة، لأنهم لا يملكون إلا 7% من مساحة فلسطين، بينما أعطاهم القرار نحو 56% ويشكل العرب أغلبية سكانها أيضا؟ وهذا ما حدث، فقد بدأت الحرب من جانب الصهاينة قبل حرب 1948 باحتلال أجزاءٍ واسعة من الأرض التي خصصها قرار التقسيم للدولة العربية. لكيلا يُضيّع العرب الفرصة المزعومة، كان عليهم التنازل عام 1947 عن نحو 49% من الأرض التي كانوا يمتلكونها لكي يتم تنفيذ قرار التقسيم بلا حربٍ، أي التنازل عن الفارق بين ما كان تحت سيطرة اليهود وما أعطاه قرار التقسيم لهم! فهل هذه فرصة ضائعة؟ هل كان المطلوب من العرب التنازل عن نحو نصف فلسطين حتى لا يضيعوا فرصة قرار التقسيم؟!

رابعاً: هل بالإمكان التفاوض مع "دولة" لها سمات غير مسبوقة فيما يتصل ببنيتها وطبيعتها. فمن ناحية هناك سمة يهودية "الدولة" والتي تستند إلى عدة قوانين عنصرية لا مثيل لها في العالم، أهمها قانونا "العودة" (1950) و"الجنسية" (1951)، وهما يسمحان لأي يهودي في العالم بالهجرة إلى "إسرائيل" والحصول على جنسيتها بمجرد وصوله. وفي عام 2004، ضغط رئيس الوزراء الصهيوني آنذاك آرئيل شارون على الرئيس الأميركي جورج بوش الابن لتبني شرط ضرورة اعتراف الفلسطينيين بـ"إسرائيل" بوصفها "دولة يهودية" في أي تفاوض. وظل هذا الشرط يتكرر في الخطابين الإسرائيلي والأميركي منذ ذلك الوقت. وفي 2009 تمت دسترة كل المسائل المتصلة بموضوع يهودية الدولة عبر إقرار قانون أساس هو "القومية اليهودية لليهود في إسرائيل" الذي ضم كل سمات الطابع اليهودي للدولة (المرجعية العليا للدولة وهويتها) في نص واحد.

جاءت أوسلو لإدخال الفلسطينيين إلى نفقٍ مظلم من المفاوضات المطولة مع انحياز أميركي واضح للإسرائيليين ووسط عمليات بناء محمومة للمستوطنات والطرق الالتفافية

وهناك، من ناحية أخرى، حقيقة أن الكيان الصهيوني لم يحدّد لنفسه حدودًا جغرافية. وهذا يتعارض مع ما يتفق عليه فقهاء القانون العام وعلماء السياسة من أن لتحديد إقليم الدولة أهمية قصوى لأن سيادة الدولة ترتبط بإقليمها. وهذا يفسر الغاية الرئيسية للسياسة الخارجية الصهيونية وهي التوسّع الخارجي والعدوان على كل القوى التي تتحداها بجيش سُمي جيش "الدفاع الإسرائيلي"، وبدعم من الدول الغربية التي تُصوّر نفسها مدافعاً أول عن قيم الحرية والعدل وحقوق الإنسان!

خامسا: إن أي دارس مدقّق للحركة الصهيونية يعرف جيّداً أنها أدركت منذ البداية أن الاعتراف بالحقوق الوطنية لشعب فلسطين معناه القضاء على أساس جوهري من أسس الصهيونية، وهو أن "فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". ولهذا كانت الحركة الصهيونية أول من رفع شعار: لا اعتراف ولا تفاوض ولا سلام مع الفلسطينيين. ولهذا أيضا فتحت الحركة الصهيونية ثم الكيان بعد إنشائه قنوات حوار مع أطراف عربية عدة عدا الفلسطينيين.

وظلّ الكيان على النهج نفسه رافضاً حتى نهاية الثمانينيات، حل المشكلة على أساس الاعتراف المتبادل، ورافضاً قراري مجلس الأمن 242 و338 القاضيين بالانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967، وهما القراران اللذان قبلهما العرب منذ جمال عبد الناصر. كان هدف الكيان دوما هو التفرّغ لبناء قوته العسكرية اعتمادا على القوى الكبرى ثم تحييد الدول العربية باتفاقيات تسوية منفردة على أساس الاعتراف بـ"دولة إسرائيل"، والتخلي عن المقاومة المسلحة أي التخلي عن قضية فلسطين، وذلك حتى يأتي اليوم الذي يفرض فيه "التسوية" التي يريدها، أي يفرض إرادته على من تبقى من الفلسطينيين وقد خسروا الأرض في الداخل بحكم الاستيطان المكثف، وفقدوا أيضا الدعم العربي من الخارج بعد التخلي عن الكفاح المسلح.

إنْ كانت هناك من فرص ضائعة فهي على الدول العربية باستمرار تفرّقها، والتفريط في أمنها القومي المشترك

هنا جاءت أوسلو لإدخال الفلسطينيين إلى نفقٍ مظلم من المفاوضات المطولة مع انحياز أميركي واضح للإسرائيليين ووسط عمليات بناء محمومة للمستوطنات والطرق الالتفافية. وبهذا المنطق أيضا، يُطرح حلّ الدولتين اليوم. أين ستقوم الدولة الفلسطينية وقد صارت معظم الأرض في الضفة الغربية مليئة بالمستوطنات والطرق الالتفافية؟ أين ستقوم وقد تم هدم الجزء الأكبر من قطاع غزة وتتعالى صيحات المستوطنين لإعادة بناء المستوطنات هناك، بعد تهجير أهل القطاع إلى الخارج؟

مجمل القول: ليست هناك من فرص ضائعة مع كيان يتّسم بالعنصرية على أساس الدين في الداخل، وتقوم عقيدته القتالية وسياسته الخارجية على التوسّع في الخارج. لن تأتي فرصة من جانبهم إلا إذا تخلوا عن ذلك الطابع العنصري والتوسعي واليهودي لدولتهم وألغوا كافة القوانين والممارسات ذات الصلة بهذا، تماما كما فعل المستوطنون البيض في جنوب أفريقيا.

وإنْ كانت هناك من فرص ضائعة فهي على الدول العربية باستمرار تفرّقها، والتفريط في أمنها القومي المشترك، وتحويل أوطانها إلى ساحة لتنافس الفاعلين الخارجيين، وخذلانها قضية إنسانية عالمية لا يختلف عليها الأحرار في أي مكان. وأيضا هناك فرص ضائعة على الجانب الفلسطيني، بتفرق فصائله وتنافسها وتحوّل بعضها إلى شرطة للاحتلال.