أسطورة رفض العرب قرار التقسيم وقبولهم حل الدولتين

أسطورة رفض العرب قرار التقسيم مع قبولهم حلّ الدولتين

19 فبراير 2024
+ الخط -

من الأساطير الشائعة في الصراع العربي الصهيوني ترديد بعضهم أن العرب رفضوا قرار تقسيم فلسطين عام 1947 ثم قبلوه عندما وافقوا على حلّ الدولتين مع المبادرة العربية عام 2002. فاتت على هؤلاء (وهم يرون أيضاً إعادة طرح أميركا وبريطانيا حلّ الدولتين في أثناء حرب الإبادة على غزّة إنجازا!) عدة أمور، كان من الممكن ببساطة معرفتها لو قرأوا بعمق في تاريخ الصراع. 
أولا: قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 والصادر في 29/11/1947 هدف إلى إنهاء الاستعمار البريطاني (ما كان يعرف بالانتداب ككلمة مهذّبة لكنها زائفة) في فلسطين، ووضع حل للمسألة عن طريق تقسيم فلسطين إلى ثلاثة كيانات (دولة عربية على نحو 43% من أرض فلسطين التاريخية، ودولة يهودية على نحو 56%، ووضع القدس وبيت لحم والأراضي المجاورة تحت وصاية دولية). وكان هذا أول حلٍّ تقدّمه الأمم المتحدة بعد نشأتها في 1945. لكن الحل كان في الواقع امتدادا لحلول سابقة طرحتها لجنتان شكّلهما المستعمر البريطاني وأوصتا بالتقسيم (لجنتا بيل 1937 ووودهيد 1938). 
ثانيا: كانت حلول تقسيم فلسطين بين اليهود والعرب دوما حلولاً استعمارية لصالح اليهود، تقدّمها بريطانيا والغرب وبموافقة تكتيكية صهيونية (أشرح لاحقا المقصود بالتكتيكية) في أعقاب كل غضب أو ثورة للعرب ضد السياسات الاستعمارية البريطانية والصهيونية. كانت حلولاً لتهدئة العرب وشراء الوقت، فقد صدر تقريرا لجنتي بيل ووودهيد خلال الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939)، وصدر قرار التقسيم لعام 1947 بعد أن أعلنت بريطانيا عن نيّتها إنهاء انتدابها لفلسطين، وبالتالي كان القرار تمهيدا لتسليم فلسطين للحركة الصهيونية.

جاء قرار التقسيم تلبيةً لطلبٍ صهيوني في الأساس، ألحّ عليه بعض قادة المنظمة الصهيونية لسبب آخر

ثالثا: قرار التقسيم لعام 1947 مخالفٌ للقوانين والاتفاقيات الدولية، فحسب القانون الدولي، كانت فلسطين أرضاً عربية تحت الانتداب البريطاني من 1923 – 1948، ومن ثم يتوجب (بموجب القانون الدولي) إعادة الأرض إلى أهلها الأصليين الذين استعمرت بريطانيا أراضيهم بحد السيف خلال الحرب العالمية الأولى، أي إعادتها إلى العرب. كما أن اتفاقية جنيف بشأن حماية المدنيين وقت الحرب لعام 1949 (اتفاقية جنيف الرابعة) لا تجيز لأصحاب الأرض الأصليين التنازل عن حقوقهم في إعادة أرضهم، أي أن للعرب الحقّ في النضال من أجل استرجاع أرضهم.  
رابعا: وافق قادة الصهاينة، وفي مقدمتهم حاييم وايزمان وديفيد بن غوريون، على مشاريع التقسيم السابقة وعلى قرار التقسيم لعام 1947 حلّاً مرحلياً. جاء في رسالة لبن غوريون في أكتوبر/ تشرين الأول 1937 أن فكرة التقسيم التي طرحتها لجنة بيل ستكون خطوة أولى نحو الاستيلاء التدريجي على فلسطين بأكملها. وكرّر هذا علنا في مناسباتٍ أخرى، منها اجتماعه مع المدير التنفيذي للوكالة اليهودية في يونيو/ حزيران 1938. وفي عام 1947، قبلت الوكالة اليهودية قرار التقسيم، لكنها لم تقبل الحدود المقترحة فيه، أي قبلته تكتيكيا وبشكل براغماتي صرف، على أساس أن الدولة ستقوم على جزء من فلسطين، وأنها ستتوسّع في فرصة لاحقة. ولهذا أيضاً صدر ما يسمّى "إعلان الاستقلال" من دون أن يضع حدودا للدولة. وبالفعل، قامت الدولة وتوسعت لاحقا خلال حربي 1948 و1967. 
خامسا: جاء قرار التقسيم تلبيةً لطلبٍ صهيوني في الأساس، ألحّ عليه بعض قادة المنظمة الصهيونية لسبب آخر. كان هؤلاء حريصين كل الحرص على أن يقيموا دولتهم بعد صدور صكٍّ دولي بها، يوفّر لها شرعية دولية ما. كانت حاجتهم لهذا الصك بسبب أنهم يعرفون جيدا زيف ادّعاءاتهم الأخرى، الدينية والتاريخية والسياسية، ولأنهم يعرفون أيضا أن لا قيام لدولتهم ولا استمرار لها من دون دعم الدول الكبرى لها استنادا إلى قراراتٍ دوليةٍ ما، مع ضمانهم انحياز الدول الكبرى لدولتهم بفعل قوة اللوبيات اليهودية داخلها. وكان هذا الصكّ هو قرار التقسيم لعام 1947، والذي هو جزءٌ من مخطّط بناء الدولة واغتصاب الحق الفلسطيني.

نشبت حرب 1948 لأن خوض الحرب بعد قيام الدولة مطلب يهودي للاستيلاء على ما يمكن الاستيلاء عليه من الأرض

سادسا: وعلى الرغم من حرص الصهاينة على هذا الصكّ الدولي، فإنه بمفرده لم يكن كافيا لقيام الدولة. ولهذا كانت حرب 1948-1949 الأداة الرئيسية لقيامها بسبب أساسي، أن وقت قرار التقسيم كان في يد العصابات الصهيونية أقلّ من 7% فقط من أرض فلسطين (أعطاهم قرار التقسيم 56% من الأرض!) مقابل امتلاك العرب 94% من فلسطين (أعطاهم قرار التقسيم 43% من الأرض!). بمعنى أن قبول العرب القرار وقتها كان يعني تنازلهم عن نحو 49% من أرض فلسطين! (وهذا هو الفارق بين ما كان بيد اليهود وما منحهم إياه القرار)، وذلك حتى لا تقع الحرب. وكما كُتب منذ سنوات طويلة، إذا كان هذا معقولا، فيمكن الآن مطالبة الإنكليز مقاسمة إنكلترا مع الأقلية الهندية هناك، أو مطالبة الأميركان مقاسمة بلادهم مع الأقلية اللاتينية!
سابعا: نشبت حرب 1948 ليس لأن العرب هاجموا الدولة الصهيونية الوليدة، وإنما لسبب أهمّ، أن خوض الحرب بعد قيام الدولة مطلب يهودي للاستيلاء على ما يمكن الاستيلاء عليه الأرض وتوسيع ما يسيطرون عليه قبل الحرب (7% فقط). لقد عرف الصهاينة أن ما قُدّم للعرب في قرار التقسيم غير ممكن وغير منطقي ولن يقبله أحد من العرب، ولهذا بدأوا الحرب قبل دخول الدول العربية الحرب، إذ احتلت العصابات الصهيونية (من قرار التقسيم الصادر في 29/11/1947 وحتى إعلان الدولة في 15/5/ 1948 وبدء دخول الجيوش العربية فلسطين) جزءاً من الأراضي التي خصّصها قرار التقسيم للدولة العربية (نحو 43% من مساحة فلسطين، من ضمنها عكّا ويافا) كما احتلت أجزاءً من الأراضي المخصّصة للقدس المُدوّلة بقرار التقسيم. وفي كتابات قادة الصهيونية أنفسهم ما يُثبت هذا، فهذا ديفيد بن غوريون يقول أمام تجمّع صهيوني في 12/12/1948 إنه ما إن بدأ شهر أبريل/ نيسان 1948 (قبل بدء الحرب) حتى تحوّلت ما أسماها هو "حرب التحرير" من دفاعٍ إلى هجوم. وعلى الجانب العربي، كانت بريطانيا تساعد العرب بالسلاح لدخول العرب (هناك تفاصيل كثيرة عن جهود بريطانيا في هذا الاتجاه في مصر والأردن).
ثامنا: صدر قرار التقسيم بعد أن مارس قادة الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة كل أنواع الضغط والتهديد والابتزاز على السياسيين الأميركيين في الكونغرس، وعلى الرئيس هاري ترومان للضغط على الدول المتذبذبة في الأمم المتحدة للتصويت لصالح القرار. وهذا ما حدث، وقد اعترف ترومان نفسه بأن بلاده والبيت الأبيض تعرّضا لحملة ضغط لا مثيل لها، وأنه انزعج كثيرا من ممارسات قادة اليهود. وبالفعل، صدر القرار وكانت نتيجة التصويت: 33 مع، 13 ضد، و10 ممتنع. وهناك مصادر كثيرة عن هذه الضغوط، منها ما ذكره جواهر لال نهرو أن الصهاينة حاولوا رشوته وأن مندوبة الهند (صوّتت ضد القرار) في الأمم المتحدة تلقّت تحذيرات بأن حياتها في خطر إذا لم تصوّت لصالح القرار، وهدّدت ليبيريا وفرنسا بقطع المساعدات الأميركية ووعدت هاييتي بقرض بقيمة خمسة ملايين دولار.

تضاعف الاستيطان أربعة أضعاف خلال فترة "أوسلو"، ما فرّغ حلّ الدولتين من مضمونه، وما عادت هناك أرضٌ تقوم عليها الدولة الفلسطينية

تاسعا: الكذب والخداع والتآمر وسياسة الوجوه المتعددة كانت (ولا تزال) سماتٍ ثابتة في سياسة البريطانيين منذ القرن التاسع عشر تجاه العرب. قدّمت بريطانيا، سرّاً وعلناً، الوعود بتمكين اليهود من استعمار فلسطين وساعدتهم بالمال والسلاح وفي التخطيط والتنفيذ. وفي الوقت نفسه، هدّأت العرب بالوعود وتشكيل لجان تحقيق واقتراح حلول. وجرّ البريطانيون العرب ضد العثمانيين في الحرب العالمية الأولى بعد أن وعدوهم باستقلالهم، وعندما احتل الجيش البريطاني دمشق والقدس، كان يساعده الجيش العربي (وهو قوات نظامية وغير نظامية بقيادة أولاد شريف مكّة الحسين بن علي)، وانتهت الحرب باستعمار سورية والعراق وتمكين اليهود من فلسطين. 
واستمرّ الأميركيون في النهج نفسه، فعلى سبيل المثال، بعد أن جرّ الأميركيون مصر وسورية والمغرب بجانب دول الخليج إلى التحالف معهم ضد صدّام حسين بعد غزوه الكويت، وعدوا العرب بحل مشكلة فلسطين على أساس حلّ الدولتين، فكان مؤتمر مدريد واتفاقيات أوسلو التي دخلها رئيس وزراء دولة الاحتلال إسحاق شامير بنية التفاوض مائة سنة من دون أن يقدّم أيّ "تنازل" للفلسطينيين. وبالفعل، ظل قادة الدولة العبرية يماطلون بينما تضاعف الاستيطان أربعة أضعاف خلال فترة "أوسلو"، ما فرّغ حلّ الدولتين من مضمونه، وما عادت هناك أرضٌ تقوم عليها الدولة الفلسطينية. وهناك تفاصيل كثيرة أخرى بخصوص هذا الحلّ.
واليوم وبعد مقتل وإصابة نحو مائة ألف إنسان في غزّة والمئات من الضحايا والآلاف من المعتقلين في الضفة الغربية، عاد البريطانيون والأميركيون إلى النهج نفسه: وعود للعرب بإحياء حلّ الدولتين وربما أيضاً اعترافهم بدولة فلسطين. لا قيمة لاعترافٍ بكيان مستحيلة إقامته على الأرض في ظل المستوطنات اليهودية، وفي ظلّ بقاء الفكرة العنصرية الصهيونية. وللأسف، في كل مرّة يصدّق العرب، أو بعضهم، ويعلقون الآمال، وتكون النتيجة في النهاية مأساوية.