أقوال مأسورة

أقوال مأسورة

05 سبتمبر 2021

(نجا المهداوي)

+ الخط -

لا يوجد خطأ في العنوان أعلاه، فالمقصود الأقوالُ المأسورةُ في رؤوس قائليها وحافظيها، ومروّجيها، والمقاتلين في سبيلها، أو حتى منتقديها. ثمّة قول "مأسور" شهير كانت أجهزة الإعلام العربية الممانعة تستخدمه، عندما تتعرّض دولة عربية أو أكثر لهزيمة بشعة: "مرّغنا أنفَ العدو بالوحل". الغريب أن هذا القول عاد إلى ميدان التداول خلال أغسطس/ آب المنصرم، فمَن يتابع منصّات "السوشيال ميديا"، يعثر عليه هنا وهناك بمناسبة سحب أميركا قواتها من أفغانستان، واستيلاء حركة طالبان على الحكم، بالإضافة إلى أقوال أخرى عن أناس أفغانيين كانوا موالين لأميركا، بدليل محاولتهم الهرب من المطار، أبرزها أن "الخيانة ليست وجهة نظر".

هناك حقائق يعرفها الجميع، على الأرجح، ولكن بعض الناس يتجاهلونها بسبب حماسهم العاطفي. يعرفون أن أميركا تنسحب أحياناً، تتراجع، تعيد حساباتها، تخسر أموالاً وأسلحة ومعدّات وقواعد عسكرية، ولكن أنفها لا يتمرغ بالوحل، وتعود إلى المكان الذي غادرته عندما تشاء، وتستطيع أن تحشُد لعودتها جيوشاً وأساطيل من حليفاتها.. وللتذكير فإن الدولتين اللتين تعرضتا للغزو الأميركي بعد "11 سبتمبر" في 2001، أفغانستان والعراق، تبعدان آلاف الكيلومترات عن أميركا، وانسحاب أميركا من العراق، مثلاً، كان نتيجة لتغيّر السياسة الأميركية، ولا علاقة له بتمريغ أنف، أو خشم، أو منخار، بالوحل.

بالعودة إلى الأقوال المأسورة، أفيدكم بأننا، نحن السوريين المتقدمين في العُمر، كنا نسمع من الراديو أغنيات حماسية تحوّلت إلى "أقوال مأسورة"، كتلك التي كانت تبث خمسين مرة في اليوم، في أثناء الانسحاب الكيفي الذي أمر به وزيرُ الدفاع السوري حافظ الأسد الجيشَ السوري المتمركز في الجولان خلال حرب 1967، تقول كلماتها: "خَلًّوا العزيمة نارْ يا رفاقي، في فيتنام راحتْ نصّ أمريكا، و(إحنا) راح نكملْ على الباقي". ولعله من سوء حظ القراء المعاصرين أن محرّك البحث "غوغل" وموقع "يوتيوب" لم يحتفظا بتلك الأغنية الطريفة، والسبب على الأرجح أنها لم تكن مصوّرة تلفزيونياً، ومغنيها ليس من المشاهير. والأطرف من هذا أننا، نحن الذين كنا يومئذ فتية صغارا، صَدَّقْنَاها، وانتظرنا أن تحقق قواتُنا المسلحة الباسلة البند الثاني الذي يتعلق بنا، أي الإكمال على أميركا، لتتخلص الشعوب المقهورة من جبروتها... لكنّ هذا لم يحصل.

تجاوز الإعلامُ السوري، بعد حرب أكتوبر سنة 1973، لغةَ الإعلام "الحزيراني" الغبية، وراح يستخدم لغةً أقلّ تهويلاً وصراخاً، ما أدّى إلى ظهور أقوال مأسورة جديدة، من قبيل: "أجبرناهم على الفرار". "منعناهم من تحقيق أهدافهم". "رددناهم على أعقابهم"... ولكن الآن، على الضفة الأخرى، يوجد محللون استراتيجيون يلقون الكلام على عواهنه، فيقولون: أصلاً أميركا هي التي "صنعت" تنظيم القاعدة وحركة طالبان، فانقلبا عليها. التصنيع، ببساطة، يعني أن أميركا فطرت أفراد هذين التنظيمين على الإسلام، وسهلت لهم الحضور من باكستان وبعض الدول العربية إلى أفغانستان، وفتحت لهم معاهد لتعليم الفقه الإسلامي المتشدّد، وعلمتهم كيف يكون تكفير المسلمين المعتدلين على أصوله. وهذا مستحيل بحسب قول مأسور آخر "فاقد الشيء لا يعطيه". ولو قال إنّ أميركا استفادت، يومئذٍ، من عداء "طالبان" و"القاعدة" للشيوعية، أغدقت عليهما المال والسلاح ليحاربا السوفييت بهما، لاستقام له المعنى.

السوريون بمختلف أطيافهم، المعارضون والمؤيدون والرماديون، تأسرهم العبارة إن الخيانة خيانة، ليست وجهة نظر، على الرغم من أنهم لم يتفقوا، في أي يوم، على تعريف الخيانة. الشبّيحة يتهمون المعارضين بالخيانة، وكثير من تيارات المعارضة تخون النظام وأتباعه، ويخون بعضها بعضا، وكل واحد منهم، إذا لزم الأمر، يشرح "وجهة نظره" في الموضوع، ولعل أكثر هذه الوجهات إقناعاً قولُ مواطن سوري نزل برميلٌ على بيته، فهدمه، وقتل بعض أفراد أسرته، وهرب الرجل بثياب النوم إلى أي مكان يفتح له بابه، فقال: أنا خائن. سورية ليست وطني. طز بالجميع.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...