"اليسار الإسلامي" .. اجتماعُ ما لا يَجتمِع

"اليسار الإسلامي" .. اجتماعُ ما لا يَجتمِع

02 مارس 2021

(كارلوس ميريدا)

+ الخط -

أقف على شاطئ البحر الأبيض المتوسّط الذي يغسل أقدام بيروت، وأرمي نظري بعيدا، إلى البلاد الأخرى، حيث أمضيتُ أكثرَ من نصف عمري، وما زال لي فيها طيفٌ ينتقل بين حواريها المفاجئة وشوارعها الضيّقة وحدائقها المترامية تقاوم سماءً ثقيلة واطئة، غير متواطئة، يسكنها الرماد. أطير إليها أحيانا، هربا من بيروت، فأبدّل لغةً بلغة، وهمّا بهمّ، متخلّيةً عن آخر ما تبقّى من زرقة السماء وسعة البحر، من أجل لحظاتٍ قليلةٍ من السويّة والأمان، أمضيها في زوايا باريس التي سكنتُ وأحببت.
لكن، في الأعوام الأخيرة، كلما انطلقتُ إليها في قراءاتي ومشاهداتي عبر القنوات التلفزيونية والجرائد والإنترنت، تهتُ، فما تعرّفت إلى المكان الذي أكلتُ خبزَه، وجالستُ أشجارَه، وتركتُه مرغمة، وأنا ما أزال أفكّر بالعودة إليه. أسمع عباراتٍ لا تخرج من القواميس، وأشهد مواقف وسجالات يختلط فيها الحابل بالنابل، تُقرع أجراسٌ تقضَ مضاجعَ الناس وتنذرهم بالأسوأ، وتُخيفهم من خطر داهم، قريب، يعيش بالقرب منهم، وقد زُرع كعضوٍ غريبٍ في جسم المجتمع الفرنسي الذي بات يعبّر صراحةً عن رفضه تبنّيه أو دمجه. نعم، يعيش المجتمعُ الفرنسي، في مختلف فئاته، حال توتّر وضياع وخوفٍ من مسلميه، ومن الإسلام الذي يشكّل الدينَ الثاني في فرنسا، فهو لم يعد يجد كيفية التوفيق بين قيمه التي تدعو إلى الحرية والمساواة والتآخي والعلمانية .. إلخ والصدمات التي تُنزله بها الضرباتُ الإرهابية المتوالية، وآخرها قطع رأس أستاذ التاريخ الفرنسي الذي أرى رسوم الكاريكاتور الدنماركية المسيئة للإسلام لتلاميذه. من جانبهم، حوّل المسلمون انتماءهم الديني إلى انتماء وهوية، ودرع يتلطون وراءها درءا لما يواجهون من تمييز وعدوانية وفوقية، وهو ما جعلهم يُمعنون انفصالا وانغلاقا ونأيا عن مكوّنات المجتمع الفرنسي، حيث يعيشون.
منذ نحو أسبوعين، انتشر سجالٌ ساخنٌ في الأوساط السياسية والإعلامية بعد مطالبة وزيرة التعليم العالي، دومنيك فيدال، "المركز الوطني للبحوث العلمية" بإجراء تحقيق حول "مجمل البحوث" في فرنسا، وذلك بنية الكشف عن "اليسار الإسلامي الذي يضرب الجامعات بالغرغرينا، وهو ما أثار ردودا حادّة في أوساط جامعية وإعلامية وسياسية، طالبت باستقالة الوزيرة، محذّرة من إنشاء بوليس سياسي يعمل على ملاحقة الأشخاص ذوي الفكر المعارض والمختلف وتهميشهم.، مثلما جرى مع المكارثية في أميركا. هذا وقد وعلّق كثرٌ على عدم علمية تسميةٍ كهذه، "اليسار الإسلامي"، وعلى عدم وجودها في الأصل، خصوصا وأن اليسار المشار إليه ماركسيٌّ في أغلبيته، وهو لا يقيم للدين أي اعتبار، وإنما ينظر إلى المسلمين بصفتهم أقلّيةً يجري اضطهادها، أو أنه يتعامل معها من منظور طبقي بحت، معتبرا المهاجرين الطبقة العاملة في فرنسا.
ومن يتأمّل المشهد الدائر من بعيد قد يسهو عن خطورته، مطمئنًّا إلى العدد المهم من الباحثين والمفكرين والفلاسفة الذين انبروا للدفاع عن الجامعات وباحثيها، وعن حرية الفكر المقدّسة، والذين يوقعون البيانات، وينبرون لمحاربة الناطقين بأفكار اليمين المتطرّف وطروحاته. بيد أن الملفت أن طلب الوزيرة يأتي بعد أعوامٍ من النداءات والتصريحات التي تنادي بالأمر نفسه، وإنْ بعباراتٍ أخرى، وأن نتائج الاستفتاء الأخير عن صحة وجود "اليسار الإسلامي" تظهر أن أغلبية الفرنسيين، الثلثين تقريبا، تؤيد الوزيرة في كلامها. أجل، الخطر يكمن هنا في الذات، في تأليب جزءٍ من المجتمع الفرنسي على جزء آخر، وفي لعب لعبة اليمين المتطرّف من خلال الخلط، بشكل مقصود، بين الإسلام دينًا والتطرّف والجهاد الإسلامي، أو في تحويل المسلمين إلى كبش محرقة، كما حصل في الثلاثينيات، حين كانت الدعوة تتم إلى تطهير الجامعات من "اليهود الماسونيين".
أخيرا، يبقى أن نشير إلى أن البحوث والأطروحات المعنية، والتي تتناول اليوم موضوعات "حساسة"، مثل ماضي الاستعمار، أو النوع، أو الهوية أو العِرق، لا تعدو نسبة واحد في المئة، وهي الأقل عددا على المستوى الأوروبي، ما يجعلنا نتساءل: أهو ردّ الفعل ضدّ من كانوا أمس موضوعاتٍ للدراسة (المهاجرين)، وقد تحوّلوا اليوم باحثين جددا؟

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"