"الأزمة الأوكرانية.." .. هذا الكتاب

"الأزمة الأوكرانية.." .. هذا الكتاب

29 مارس 2022
+ الخط -

أمّا وأن أوكرانيا هي الخبر منذ أكثر من شهر، تجري في أراضيها حربٌ سيصير العالم بعدَها، في مستوى الخرائط الجيوسياسية فيه، غيرَه قبلها، فإن فضولا سيغشاك، سيما إن كنتَ من العاملين في الإعلام ووسائطه، من أجل أن تعرف جيدا عن هذا البلد، وعن تعقيد علاقته الصعبة مع روسيا، البلد الكبير الجار، والذي يرأسُه رجلٌ اسمه بوتين، يستبدّ فيه نزوعٌ قويٌّ إلى استعادة روسيا مكانة الاتحاد السوفييتي ونفوذه. توفّر لك صحفٌ وفضائياتٌ ومواقعُ إلكترونيةٌ ما قد يفيد في معرفة ما تطلب، عن حاضر أوكرانيا وبعض ماضيها، غير أن أشتاتا من هنا وهناك قد لا يُسعفك المزاج (سيّئهُ على الأغلب) ولا الوقت (ضيقُه المعتاد)، ولا القدرة (قلّتها أو انعدامها) أيضا ربما، على جمعها في لوحةٍ مكتملةٍ عن هذه الدولة المركّبة من عدة قوميات ولغات ومذاهب دينية، عن السياسة والاجتماع فيها، عن صراعات الداخل وقضاياه، وتحدّيات الخارج وتهديداته. ثم تُصادف كتاب "الأزمة الأوكرانية وصراع الشرق والغرب .. جذور المسألة ومآلاتها"، للباحث المغربي، محمد الكوخي، تتوقّع أن يفيدك بالذي تتوخّاه. ولمّا كان قد صدر في أكتوبر/ تشرين الأول 2015، أي على مبعدةٍ نحو سبع سنوات من الحرب الجارية، فإن عنوانَه يأتيك بما هو راهنٌ أيضا، فواحدٌ من أهم وجوه هذه الحرب أنها تمثيل لصراع بين الغرب والشرق (بالمفهوم السياسي قطعا)، ولأن المعارك ميدانيا، وكذا التنازع الدعائي الحادث بين أميركا والغرب من جهة وروسيا من جهة ثانية، بشأن أوكرانيا وخيارات نخبها السياسية والاقتصادية الحاكمة في كييف، لها جذورٌ متصلةٌ، حكما، بما شهده هذا البلد من أزمات، سيما منذ "الثورة البرتقالية" فيه في 2004 وصولا إلى احتجاجات 2014، ما يعني أن لإضاءاتٍ على تلك الأحداث نفعا مؤكّدا في التعرّف على مصادر للتأزّم الذي ساق إلى الحرب التي تحتلّ شاشات الفضائيات منذ أزيد من أربعة أسابيع.
أما وأن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات من أصدر الكتاب، فإن هذا مدخل ثقةٍ مسبقةٍ بقيمة الكتاب قبل أن تشرَع في قراءته، فضلا عن أن نشرَه كتابا كهذا عن أزمةٍ حادّةٍ كانت طازجةً وقتها في أوكرانيا يؤكّد المؤكّد عن "المركز العربي .." مرجعا، في إصداراته من الكتب والدوريات والأبحاث، وفي منتدياته ومؤتمراته وملتقياته وورشاته، لأهل الدرس والبحث والتأليف، وللمشتغلين في تعاليق الصحافة، وفي كتابة الرأي والتحليل السياسي (والاجتماعي والاقتصادي). أما عنك بعد أن تنتهي من قراءة الكتاب، وصفحاته من القطع الصغير والقليلة (190 صفحة)، فإنك تصبح مسلّحا بإحاطةٍ وافيةٍ، إلى حدٍّ كبير، بالحالة العامة في أوكرانيا، وبكثيرٍ من تفاصيلها، ومسارات أزماتها، في العقدين الأخيريْن، بعد إضاءاتٍ موجزةٍ عن تكوينها دولةً وكيانا سياسيا. ويبسُط المؤلف الشاب (37 عاما) هذا كله، في ستة فصول، بلغةٍ غايةٍ في المرونة والدقة، وبتوثيقٍ محكمٍ للوقائع والمعلومات من مصادرها الأجنبية، من كتب ودوريات ومواقع إلكترونية ووثائق، (كلها بالإنكليزية، ولا شيء أبدا بالعربية!).
يتحرّز محمد الكوخي، في خلاصات خاتمة كتابه الشائق، من تنبؤٍ ما يعرِضه أمام قارئه، بعدما بسط له مصادر التأزّم الكبير في أوكرانيا، غير أنه يأتي على عوامل يعدّها أدّت إلى "وصول البلاد ونظامها السياسي والاقتصادي إلى طريقٍ مسدودة، وانتظار الفرصة الملائمة لتفجير الوضع، الأمر الذي يهدّد بتفجير الدولة، وتقسيم البلاد في ظل مجتمع منقسم على نفسه". ويكتب عن "مستقبلٍ أسود لبلدٍ فقد فيه الناس إيمانهم بالسياسة والسياسيين ..". وذلك كله، بعدما افتتح الكتاب بتقديمٍ جاءَ على "إفلاس نمط الدولة الأوليغارشية" في أوكرانيا، ووصولها إلى حائطٍ مسدودٍ على الصعيد الداخلي، إضافة إلى صعود روسيا قوة إقليمية ودولية كبيرة. .. وإذ يعرض الكتاب تفكيكا للأزمة الأوكرانية (2014 وما قبلها) في سياقٍ تاريخيٍّ عام، محليٍّ وإقليميٍّ ودولي، فإنك، أيضا، وأنت تعاين الأزمة الراهنة، الأكثر حدّةً بداهةً، وقد تمثلت في غزوٍ روسي، تحتاج، بالضرورة، إلى النظر، عميقا، في المحلي الداخلي والإقليمي شرقا وغربا والدولي ..
الأوليغارشية النافذة وتشابكاتها هناك، والانقسامات عموديا، لغويا وجغرافيا وثقافيا، بين شرق وغرب، بين مزاجين وولاءين، في مجتمع مهدّد بتقسيم البلاد، وقضايا تتعلق بخرائط السياسة والاقتصاد وتنوّع الولاءات وتداخلات الغرب والتحالفات معه .. ذلك كله وغيره في كتابٍ مفيدٍ جدا للقراءة، في هذه الأيام خصوصا.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.