المال في الولايات المتحدة: أن تبدأ حياتك مديوناً

المال في الولايات المتحدة: أن تبدأ حياتك مديوناً

18 مايو 2021
العطب في النظام وألاعيبه وليس في السلوك البشري الهشّ (Getty)
+ الخط -

بثت نتفليكس، منذ عدة سنوات، وثائقيا بعنوان "جنازة الحلم الأميركي"، الذي يناقش فيه نعوم تشوميسكي تكوين أميركا كبلد قائم على حماية الثروة، والحفاظ على مصالح فئة واحدة تتحكم وتمتلك وتتناقل هذه الثروة.

كان ذلك قبل الوباء والأزمة المالية الحاليّة. ومؤخراً، وفي ذات السياق، بثت نتفليكس موسماً جديداً من Explained بعنوان "المال". وفي الحلقات الخمس منه، نتعرف على العلاقة بين المال ومؤسساته، وبين "البشر" في الولايات المتحدة. ونستخدم كلمة بشر بسبب كمية الهيمنة والتلاعب التي يتعرض لها المواطنون، إذ تصل إلى حد المأساة في الكثير من الأحيان.

المال وتراكمه هو محرك الرأسمالية، فكلما ازداد المال ازداد "استعباد" فئة على حساب أخرى. هذه الحقيقة يشار إليها في كل حلقة مراراً. هناك عطب في شكل أميركا، وكل محاولات التغيير ترتبط الآن بالجيل الجديد، الواعي لهذا العطب، والذي يحاول أن يعيد للدولة دورها، بوصفها هناك لخدمة الأفراد، وليست لحماية الأثرياء والمستثمرين والمؤسسات والبنوك. ومع التطور العلمي الذي وظفته الرأسماليّة، يتكرر أمامنا الكلام المعتاد؛ فبالنسبة للبنوك، نحن أرقام وبيانات على أساسها تُقاد حياتنا وتُوجّهْ.

تراجيديا الاستهلاك التي يشير إليها المسلسل ترتبط بالفرد نفسه، وتتلخص بالآتي: كي "تعيش" في أميركا، وتتمكن من التعلم واستئجار شقة والعمل، عليك أن تكون مديناً للبنك؛ أي تبدأ حياة الأميركي بحقيقة أنك واقع في الدين الذي يتمثل ببطاقات الائتمان، التي يشكل رصيدها ونقاطها الأساس الذي يتم عبره منح الفرد "رفاهيات" الاستهلاك الوهميّة. وهنا، تكمن التراجيديا، لا يمكن الفكاك من هذا الدين، ومهما كان الشخص غنياً أو واعياً، "النظام" نفسه لن يقبل به من دون هذا "الدين".

نكتشف في كل حلقة، أن العطب في النظام وألاعيبه، وليس في السلوك البشري الهشّ؛ فشركات التأمين وكازينوهات المقامرة والبنوك وشركات الإعلان، كلها تعمل معاً كي تستنزف الأميركي حتى لحظة موته. تعرفنا السلسلة على أساليب التسويق التي تتحرك بين الاحتيال وجذب الانتباه، الخيط دقيق بين الاثنين، لكن يختلف أثره باختلاف الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد، فالفقراء هم الأكثر وقوعاً في خدع الربح السريع والتسويق الهرمي، النماذج التي تسمح الرأسمالية بوجودها كونها قائمة خدعة مفادها: "ادفع قليلاً وبعد وقت قصير ستنال ثروة".

وبالرغم من القوانين الصارمة التي تمنع هذا النوع من الخدع، لكن الملايين ما زالوا يقعون ضحايا لهذه "الوعود"، وهذا ما يحاول المسلسل أن يشير إليه؛ الحظ والصدفة والوعد بالثروة، كلها أكاذيب، ولا مكان لها في هذا النظام. كل شيء، كما في كازينو القمار، محسوب وقائم على علم واضح، ومصمم كي يخسر المستهلك ويربح البنك/الكازينو/شركة التأمين. رياضيات بحتة تغطيها طبقة لامعة من البهرجات أشبه بطعم مزركش بانتظار أن تتلقفه الفريسة.

نشاهد في الحلقات عدداً من "الخبراء" في التلاعب بهذا النظام، كالمقامرين المحترفين ومستخدمي بطاقات الائتمان القادرين على كسب مزاياها من دون الوقوع في الدين، أولئك الذين يقولون إنهم قادرون على مقاومة الغوايات العاطفية والتسويقية من أجل تحقيق الربح. لكن، كما يتضح من كلامهم، فالأمر يحتاج إلى مهارة ودراسة ووعي قد يستهلك حياة الفرد بأكملها، أي كي ينجو ويتحذلق في هذا النظام، عليه أن يكرس نفسه لذلك، لا أن يعيش وهو واثق بأن أحداً لن يحتال عليه، أي أن الوعي بـ"اللعبة الرأسماليّة" يعني التفرغ كاملاً لها، فلا خيار آمناً، ولا بد دوماً من الحذلقة والصرامة، وأحياناً اللجوء للقضاء. أساس المال هو الثقة، قيمته وقيمة التعاملات عبره تنبع من اتفاقنا على جدواه، وما يكتنزه من مزايا. هذه الثقة وحسن النيّة، كما نلاحظ في السلسلة، معدومان لدى الشركات والمسوقين، بعكسنا نحن كبشر، نميل إلى أن نثق بالآخر، وما يعدنا به، وكسر هذه الثقة بصورة دائمة يخلق التوحش والفردانية الشديدة: إن لم أثق بما يعلن لي، وما يتحكم بحياتي، كيف سأثق بالآخرين؟ 

نكتشف مثلاً أن الدفع نقداً في أميركا أمر سيئ، بل ويخسر المرء إثره النقود، والأفضل أن يدفع ببطاقة الائتمان، هذا يعني أن لا فكاك من هكذا نظام، وما يثير التفاؤل هو أن شكل الرأسمالية المتوحش هذا ما زال أسير الولايات المتحدة، وأزماتها الاقتصاديّة، تلك التي ينشأ فيها جيل الآن يحاول إصلاح الأخطاء السابقة، والتحرر من هذه السطوة التي حولت الكثيرين إلى مجرّد عمّال فقراء يحاولون سداد ديونهم، سواء كانت القروض الطلابية، أو قروض بطاقات الائتمان أو الرهونات على المنزل.

المساهمون