صباح.. دائمة الخضرة والفرح

صباح.. دائمة الخضرة والفرح

26 نوفمبر 2014
صباح.. وداعاً
+ الخط -


غفت صباح. هذه المرة إغفاءة طويلة. لا نصدّق الموت حين تكون ضحيته قد تركت خلفها من روحها الكثير أو ربما كلّ روحها وضحكاتها وأغانيها وألوانها وأنوارها...
تذكّرني صباح بالشجر الدائم الخضرة. إنه التشبيه الأقرب إليها، هي التي مثل تلك الكائنات تأقلمت مع اقسى الظروف وصمدت وبقيت تزهر موسماً إثر آخر...


(1927-2014) رقمان سيلتصقان منذ الآن باسم الفنانة اللبنانية التي من أشهر ألقابها: الشحرورة، والصبوحة..

مئات الأغنيات والأعمال الاستعراضية (أكثر من 27 عملاً مسرحياً) والأفلام (حوالي 85 فيلماً)، قدّمتها صباح خلال مسيرتها الفنّية الحافلة التي بدأتها طفلة. 
غنّت ألحان كبار الملحنين العرب، أبرزهم السنباطي وعبد الوهاب والأخوان رحباني ووديع الصافي وروميو لحود وبليغ حمدي... 
مثلّت تحت إدارة كبار المخرجين، بينهم عزّ الدين ذو الفقار (فيلم الرجل الثالث، بطولة رشدي أباظة) وبركات (فيلم 3 نساء) ومحمود ذو الفقار (فيلم الأيدي الناعمة)...
آخر أعمالها الغنائية، أغنية "شو فيها الدنيي"، أما آخر أعمالها المسرحية كانت مع الفنان جوزيف عازار في مسرحية "كنز الأسطورة".

قرابة تسعة عقود من الحيوية والبهجة والأغاني السعيدة، لا أذكر بينها أغنية حزينة سوى "ساعات ساعات"، التي بدورها تتحدّث عن السعادة بالتساوي مع التعاسة.

رغم إشاعات موتها العديدة منذ سنوات، لا أظنّ أنّ أحداً سبق الحدث وكتب نعوة، لأنّ أحداً لم يتمنّ أن تموت صباح، أو أن يعلن بقلمه موتها.

رغم أنّها كانت عفوية بسيطة متواضعة إلا أنّ أحداً لم ينتزع منها عمرها الحقيقي، ربما لم يسألها أحد، فالنساء اللطيفات والجميلات لا يُسألن عن أعمارهن. المؤكد أنّ صباح من مواليد نهايات عشرينيات القرن العشرين، حينها لم يكن الأهل يدوّنون تواريخ مولد أبنائهم بدقّة.

ولكن، لا يعود تقدير العمر مهماً، لأنّ صباح بقيت بالنسبة لنا جميعاً امرأة شابة، وطفلة خفيفة الظلّ، ورمزاً لتناسي الهموم والمشاكل وتخطّي الكبوات.


حين انتقلت صباح إلى هوليوود الشرق، "القاهرة"، لتصبح نجمة سينمائية وغنائية كانت أكثر من فنانة عربية تشقّ خطاها، كانت تحمل معها رموز بلدتها اللبنانية "بدادون" في "وادي شحرور"، بجمال طبيعتها وصفاء ينابيعها وفاكهتها اللذيذة، الرموز التي ترتبط في أذهان العرب بالقرى اللبنانية وكلّ من يأتي منها.
في القاهرة بدأ مشوار صباح مع المنتجة آسيا داغر، والملحن رياض السنباطي، وبعد رحلة شاقة في استديوهات مصر السينمائية صارت صباح نجمة عربية، وحتى حين خفت نجمها في لبنان، ربما بسبب الحرب والصراعات والمزاج اللبناني الذي ضاق فترة بالمخضرمين وتهافت على الأسماء الجديدة، تابعت صباح تقديم عروضها الاستعراضية في القاهرة شهوراً متتالية، أبرزها استعراض "هالو كايرو"، وكانت تتمنى أن تنتقل به إلى بيروت تحت اسم "هالو بيروت" ولكن هذا لم يحدث.

عاشت جانيت فغالي، الاسم الأصلي لصباح، حياتها بالطول والعرض، أحبّت الغناء واعترفت أنّها لم تكن ممثلة عظيمة، بل كان يجب أن تغنّي في الفيلم كي تخفي ضعفها التمثيلي أو تحدّ منه، وفق قولها في مقابلة مع القناة الأولى في التلفزيون المصري في ثمانينيات القرن الماضي، حينها أشادت بزميلتها شادية، وقالت، إنها كانت ممثلة عظيمة بقدر ما هي مطربة، وكان يمكن لها أن تقدّم فيلماً من دون أن تغنّي. "بس أنا، يعني على قدّ حالي بالتمثيل"، قالت ضاحكة.

كما اعترفت صباح بأنّ الكثيرين ممن حولها استغلوها، وهي تغاضت عن هذا لأنها أرادتهم معها بأي ثمن، فقد كانت تخشى الوحدة.

صباح لم تكن ذات ثقافة، حتى موسيقية، وهي اعترفت، في حديث مع الإعلامي الراحل، حكمت وهبي، على أثير راديو مونت كارلو قبل عقود، أنّها لا تتدخل في عمل الملحن، هو يفهم أكثر منها في الموسيقى، وهي تؤدي ما يطلبه. كانت هذه نقطة قوتها، معرفة حدودها وقدراتها.

تزوّجت وتطلّقت وأحبّت وهجرت... رحلة طويلة ملكها هي فقط. نحن لنا ما تركته في أغنيات مفرحة وأفلام خفيفة الظلّ، يمكنها تلطيف مناسباتنا السعيدة، تحديداً تلك التي نهلت من الفلكلور اللبناني. صباح صارت، منذ اليوم، رمزاً لهذا الفلكلور، ليس لأنّها عاشت طويلاً بل لأنّها عاشت كما أحبّت، وكانت مثله أقوى من الزمن.

دلالات

المساهمون