متعة السكن بالمنازل العائمة في أمستردام

متعة السكن بالمنازل العائمة في أمستردام

22 يونيو 2016
يتيح البيت العائم التنقل وتغيير مواقع السكن (العربي الجديد)
+ الخط -
ربما يكون الخوف من الغرق أو الفيضانات الكبرى، وارتفاع منسوب المياه الناتج عن ظاهرة الاحتباس الحراري، ما قد يبدو سبباً لكون مساكن القوارب، أو البيوت العائمة، تحظى بشعبية بين الهولنديين. البلاد التي يقع جزء كبير منها تحت مستوى سطح البحر، أو بمساواته، تعتبر أيضاً مصباً لأنهار تخترق "القارة العجوز" كنهر الراين، وفي الفروع الأصيلة أو تلك التي استحدثها البشر، إلى جانب القنوات، تنتشر المراكب التي تستخدم كمنازل، كما تنتشر نماذج حديثة لبيوت عائمة فوق المسطحات المائية.
في المملكة الهولندية هنالك نحو عشرة آلاف مرسى قانوني لتلك البيوت، نحو ربعها في العاصمة السياحية أمستردام. حيث تتنوع منازل القوارب ما بين أغراض سياحية والإشغال الفندقي لآلاف السياح، وما بين "عناوين دائمة" لسكان المدينة أو المقيمين فيها لأغراض الدراسة، أو العمل، أو الحياة الصاخبة والتماس مع الفعاليات الثقافية والفنية لأمستردام. وفي بعض أنحاء المدينة، خاصة التاريخية منها، قد يكون من شبه المستحيل إيجاد سكن شاغر في أحد أبنية تلك الأحياء، فيما تقدم تلك القوارب تلك الإمكانية، مع مميزات أخرى، كسهولة الانتقال إلى مركز المدينة وإلى المحطة المركزية خلال دقائق باستخدام الدراجة، أو مشياً على الأقدام. مطالبات عدة وجهت إلى بلدية المدينة لمنح تراخيص جديدة لمراسٍ وحيز مائي لتلك البيوت، ووضع تصورات مستقبلية للاستفادة من المساحات المائية الكبرى التي تنتشر في البلاد، وهي أفكار تستمد من المكانة التي تحتلها هولندا في مجالات الهندسة المائية والتحكم بها، كمثال على تلك الأفكار إنشاء أول حديقة عائمة في أمستردام، يدخل في إنشائها مواد جرت إعادة تدويرها.
وبعيداً عن صخب أمستردام ودورة حياتها السياحية، تكاد لا تخلو مدينة بها أقنية أو تفرعات نهرية ذات عمق كاف، من بيوت القوارب والمساكن العائمة تحظى برخصة قانونية من السلطات المحلية، والتي قد تختلف في النظر إلى تلك البيوت ووضعيتها القانونية والضريبية من بلدية إلى أخرى، السلطات الضريبية لا تعترف في حالات كثيرة بتلك المنازل، وتضع شروطاً من أجل الاعتراف بتلك المساكن وشملها بالإعانة الضريبية والاجتماعية، كارتباط المسكن العائم براسية على اليابسة. لكن الحديث هنا يدور عن تلك التي استوفت شروط التراخيص، القسم الأعظم منها مخدّم كباقي المساكن، من كهرباء وغاز وصندوق بريدي وشبكة إنترنت، إلى جانب وجود موقف للسيارات أو حيز من اليابسة لكثير من تلك البيوت. وفي المدن التي تحتوي على جامعات أو معاهد دراسية، تحظى تلك المنازل بشعبية بين صفوف الطلاب والدارسين، فمن الممكن أن يتقاسم مجموعة من الزملاء تكاليف السكن والصيانة خلال فترة الدراسة التي تتراوح ما بين الأشهر والأعوام، بحسب كل حالة. ويرغب كثيرون بالتنقل بمسكنهم داخل البلاد أو في دول أخرى كبلجيكا وفرنسا وألمانيا، خاصة في فصل الصيف، لكن الأمر يحتاج تنسيقا مسبقا وخطة معدة لرحلة المسكن ذاك مع كافة السلطات المحلية والضريبية في المدن أو الدول التي سيمخر عباب مائها البيت، وتتطلب وفق ذلك معرفة ودراية بالقوانين والملاحة النهرية. سابقا كانت رحلات كهذه مغامرة سنوية يقدم عليها كثير من الناس، ليس بغرض السياحة، بل لأهداف اقتصادية وتجارية، اشتهر بها الهولنديون واضطلعوا بها قروناً، بين ميناء روتردام والمدن الداخلية الأوروبية التي تتشارك شرايين أنهار واحدة.
كارل من مدينة لايدن، يسكن في بيته الذي يعطيه اسم "خيردا" منذ عقدين، ويقول إنه سعى طويلا قبل أن يوفق بالانتقال إلى المنزل القارب الأول الذي عاش به في مدينة أوتريخت المجاورة، ثم انتقل لاحقاً ليسكن في "خيردا" حيث كان المركب في موضع آخر من لايدن، وبحاجة إلى صيانة وتحديث، وهو ما عمل عليه منذ عقدين بعد أن انتقل به إلى مكان آخر لا تمر بالقرب منه قوارب الجولات السياحية. الصيانة تتم بشكل متواصل، فلا يمكنك أن تتجاهل أي عطل أو تشقق حتى لو كان عمره ثانية، لأن ذلك التجاهل قد يقضي على منزلك غرقا أو تفككاً، كما يصف كارل. القارب الذي بات منزلا تتكون بنيته من الخشب والمعدن، الذي يتطلب عناية مستمرة بالعزل أو بمحاربة الصدأ الذي قد ينتج من أسباب عدة بينها الكهرباء التي تخدم المنزل، ووجود معادن أو قوارب في جوار المركب.
الصيانة والعناية الدائمة هي ما تساعد كارل على النوم مطمئناً كل ليلة، وبالملاحة ببيته إذا ما أراد الإجازة أو الابتعاد عن الضوضاء. وهو يعتبر أن منزله يقدم خصوصية وحرية لا يمكن أن يحظى بمثيلها ساكن البيوت الاجتماعية أو حتى الأكواخ. فلا وجود لجيران تنزعج من ضجيج الموسيقى أو السهرات التي يقيمونها مع أصدقائهم، ولا هو ينزعج من جيران يصدرون ضجيجاً أو يتلصصون على خصوصيته. وإلى جانب شروط الصيانة، يشدد كارل على شروط السلامة، خاصة للعائلات التي تسكن البيوت العائمة والمراكب، فإن وجد أطفال وجبت مراقبتهم لحظة بلحظة، ووجب تدعيم إجراءات الحماية فوق السطح، حيث شرفة البيت ومدخله، من طلاء الأرضية بمواد خاصة تمنع الانزلاق، إلى تسييج الجوانب بشكل كامل وتثبيتها قدر الإمكان في موضع رسوه لتخفيف الاهتزاز خاصة في الأوقات التي يكون الطقس سيئا خلالها. ويختم كارل بأنه بات من الصعب عليه أن يفكر بتغيير سكنه نظراً لأن حياته كلها تغيرت بعد سكن "خيردا"، فيما أن ابنه الذي يدرس في جامعة في الشمال الهولندي يرفض السكن مرة أخرى في منزل مشابه لأنها تسبب له صداعا عند ساعات المد واكتمال القمر.
شعبية هذا النوع من المساكن، الذي يتعامل مع المسطحات المائية واحتياجات سوق الإسكان في المدن الهولندية، تدفع بالشركات ورؤوس الأموال إلى الاستثمار في هذا القطاع، وباتت النماذج والتصاميم تجمع ما بين معايير الأمان وتقليل حجم الصيانة المطلوبة، والرفاهية والخصوصية، إلى جانب الحفاظ على البيئة وخفض معدلات استهلاك الطاقة. فبات اليوم سكن عائم لا يعني مركبا أو منزلا قد لا تتجاوز مساحته المائة متر، بطبقتين على الأقل. الاستثمارات والمشاريع التي يعمل على بنائها تقدم تصورا لـ"فيلا عائمة" مع كافة مرافقها، تبنى فوق أرضية من الكونكريت ومواد هيدروكربونية كمادة الفايبر. تلك المشاريع تستقطب إلى جانب المستثمرين ورؤوس الأموال، جزءاً لا بأس به من أثرياء البلاد، الذين لا يكتفون ببيت ريفي يقوم على مئات الأمتار من الأرض، فامتلاك بيت عائم في أحد الأفنية أو المراسي في الريف أو قرب المدن الكبرى بات يستهوي كثيرا منهم. كما أن بعض البنوك الكبرى تغطي قروضا سواء لشراء أو لتجهيز تلك المنازل، إلى جانب توفر ومحاولة تعزيز قوانين تسرع من مساواة تلك المنازل بباقي الأنواع من المساكن. وقد يعمل على بناء عدد من المساكن الاجتماعية العائمة بعد تنقيح تلك القوانين كما يطالب المستثمرون، والراغبون في السكن فوق الماء.

المساهمون