النزهة المغربية.. طقس الربيع الملحون

النزهة المغربية.. طقس الربيع الملحون

14 ابريل 2015
النزاهة طقس احتفالي بالجمال الذي يغدقه الله على الأرض
+ الخط -

"يا العاشق هذا وقت الزهو والمرام.. فتح طيب الزهر الحرجات بالنسايم"، هذه من أبيات فن الملحون التي يخرج بها المغاربة جيلاً بعد آخر لإحياء طقس "النزهة" (بتسكين النون) التراثي ربيع كل سنة. الأبيات تدعو عشاق الجمال للخروج إلى الزهر والاقتراب من الطبيعة وشم نسيمها.


و"النزهة" أو "النزاهة" طقس احتفالي بما يغدقه الله من جمال على الأرض والعباد خلال فصل الربيع، ما يحول الأمر إلى حدث اجتماعي وجماعي يحتفي بالحياة في الهواء الطلق.

ومن بين المدن المغربية المعروفة بالإخلاص لإحياء طقس النزهة، بعاداته وتقاليده المتوارثة مدينة مراكش، ربما لأن أهلها يحملون من اسم المدينة الثاني "البهجة" لطف المعشر وبهجته والإقبال على الحياة، وربما لأن المدينة التي تقع في جنوب المملكة المغربية، أسست بحيث يكون لكل حي منتزه أو "عرصة" كما يسمى في اللهجة المغربية، فتتعدد أحياء المدينة وتكبر بكبر عرصاتها وغناها بالأغراس والأزاهير ونافورات المياه.

ومن ذلك تسمياتها "عرصة سيدي بلعباس" و"عرصة الحامض" و"عرصة البياز"، وعن ذلك يقول الأديب الحسن بن اليماني بوعشرين الذي عاش في نهاية القرن 19 وبداية القرن 20 في كتابه "التنبيه عما عليه الآن حال المغرب": مراكش "مدينة كثر خيرها، وانتفى ضيرها، بها من الحدائق والجنات، والبساتين الموفرة الخيرات، والمنتزهات الفائقات، المتكفلة المسرات والمبرات، ما لا يوجد في غيرها من مدن المغرب على الإطلاق والعموم والاستغراق".

ويضيف عن بهجة أهلها: "إن مؤسس مراكش يوسف بن تاشفين تحرى بواسطة منجميه وضع أول حجر من تأسيس بنائها في برج العقرب الذي هو برج الغبطة والسرور، لتبقى دائماً دار سرور وحبور. وذاك السر في كون السلو والنشاط يغلب على سكانها ويفيض من بين أركانها".

نزهات الحرفيين

نزهات المغاربة خلال فصل الربيع أنواع، لكنها جميعاً لا تخرج عن العادات ذاتها إلا في تفاوتات قليلة. وعرف في المدن المغربية العتيقة، ومراكش بينها، أن لكل حرفة أميناً يسهر على رعاية شؤون حرفييها ويجمع صفات الأمانة والقيادة والحكمة، ومن بين مهام الأمين أن يعد كل ربيع لنزهة زملائه.


يتم التوافق على عرصة من العرصات للخروج إليها، في يوم محدد لا تجارة فيه أو بيع. وتنطلق النزهة ظهراً وتستمر إلى صلاة العشاء. تحمل البسط والوسائد ويفرض على كل حرفي الإتيان بـ "ميدة" معينة. و"الميدة" تعني المائدة في اللهجة المغربية لكن استعمالها هنا للدلالة على أن على كل حرفي أن يحضر أكلة من بيته فتُقيّم جودة ولذة "ميدة" هذا عن ذاك خلال النزاهة،  ما قد يصل في حال كانت "الميدة" سيئة أو مفرطاً في بهاراتها، إلى إطلاق طرفة ترتبط بصاحبها.

ومن ذلك ما يرويه أحد المراكشيين، عن نزهة أفرط خلالها حرفي بمذاق الحار على "ميدته" فبات يُعرف كل أكل لاذع بـ "حار فلان" نسبة إلى اسمه. هناك نزهة "الدقايقية" أيضاً وهم فرقة غنائية شعبية، تشتهر بها كل من مدينتي مراكش وتارودانت. هناك كذلك نزهة الكتاتيب القرآنية والأشهر نزهة "سلطان الطلبة" ونزهة "إيسلان".

عن نزهة سلطان الطلبة، يتعلق الأمر بطالب علم متفوق في المدارس الدينية والجوامع، يمنح السلطة على نزهة زملائه. ويقام لذلك احتفال خاص يعلن فيه الطالب سلطاناً ويسرج له جواد ويخرج به رفاقه في ذكر ودعاء وتهليل في جولة تعبر بموسري المدينة وأهلها لجمع التبرعات لنزهة السلطان.

بعد ذلك يخرج سلطان الطلبة ورفاقه لعرصة/منتزه، وتقام الولائم وتحضر الموسيقى وتتلى الأذكار، وتمتد هذه النزاهة إلى أسبوع يكون على هذه الحال فيما يستدعى في ختامها شيوخ فن الملحون لنظم قصائد بالمناسبة تغنى لاحقاً.

أما نزهة "إيسلان"، والكلمة أمازيغية تدل على العرس والجماعة، وتستعمل في البوادي والقرى العربية استعمالها ذاته في المداشر الأمازيغية، فهي خاصة بالعريس وأصدقائه. ومن عاداتها أن يتناوب أصدقاء العريس لمدة سبعة أيام، على الاحتفاء بزواج صديقهم عبر نزهات يقيمونها على شرفه يفتتحونها بمواويل شعبية أو "عيوط".

ومن قبيل العيوط: "بابا خيي هاكا نبغيك. الشابة مرضية وترضيك"، ويقيم والد العريس يوم الزفة نزهة خاصة تكريمية لهم واحتفاء بابنه، ولا يشترط أن تكون النزهات في مكان واحد بل يمكن أن تتنقل كل يوم إلى مكان، وقد تمتد بعد يوم الزفة وتصير شهراً كاملاً. وهو ما حدث في مدينة مراكش التي لا تخلو من الطرفات، حيث يحكى أن نزهة عريس شاب استمرت لواحد وعشرين يوماً فاشتكت العروس لأبيها غياب عريسها، ليشتكيه بدوره لباشا المدينة من "النزهة التي تفرق بين الزوج وزوجته".

الملحون والميزان

في مراكش التي ينسب لها ومدينة تارودانت فن "الدقة". لا تستقيم هذه الأخيرة من دون "الميزان" وهو إيقاع موسيقي ينتج عن توالي التصفيق باليدين، في كل المغرب لا يجيده أحد كما يجيده المراكشيون لأنهم أهله، وهو يدخل في صميم عاداتهم وموروثهم الموسيقي المحلي.

وفي كل نزهة ترفع الميزانات وتتوالى مع الغناء الشعبي والرقص الذي يمزج بين الجد والهزل في حركاته، خاصة إذا كان المتنزهون يلبسون الثياب التقليدية ويضعون الطاقيات التي تميل إلى الجانب أو ترفع كتحية خلال الرقص.

ولأن النزهة لم تكن في يوم من الأيام مرتبطة بالفراغ وعدم الانشغال، بل بالإصرار على عيش متع الحياة وبالبساطة وصفاء النية التي تقود المغاربة إلى جعل أيامهم مفتوحة على السعادة وعشق الجمال، يأتي حضور قصيدة الملحون في نزاهاتهم، فينظم الشعراء قصائدهم ويجودونها خصيصاً لكل ربيع.

مراكش مدينة عاشقة للملحون ومتعة الاستماع إلى قصائده وموسيقاه، وعيش لحظات إنسانية رفقة الأصدقاء، تجعل المتنزهين لا يفكرون في تجارة قد تبور أو حياة قد تتعطل. إن ما تمنحه لهم قصيدة الملحون الأصيلة والرفقة الطيبة خير مما قد يجمعونه من ربح الدنيا. وهو ما تشرحه قصيدة الملحون "سرابة فصل الربيع" من نظم الشاعر سيدي قدور العلمي
في هذه الأبيات: "الربيع قبل والوقت زيان وعلامات الخير للورى بانو جاد الزمن وضحك ثغر السلوان والنكد تفاجى وزالو تحزانو".

اليوم يحاول الجيل الجديد من المغاربة أن يعيشوا حلاوة طقس النزهة، وأن يستعيدوا في الغابات خارج المدن أو بالبيوت في أجواء عائلية عاداته الأثيرة والطريفة، طالما أن المدن العتيقة لم تحافظ بعرصاتها التاريخية إلا على التسمية. ويكفي أن مدينة مراكش التي كانت تضم لوحدها 81 عرصة لم يعد اليوم يشار لها فيها إلا على أنها أحياء.

المساهمون