فيديو السيلفي.. بمنظور ما بعد الحداثة (7- 8)

فيديو السيلفي.. بمنظور ما بعد الحداثة (7- 8)

24 يونيو 2017
(Image by Jason Parsons)
+ الخط -

يقول الكاتب المسرحي الألماني بريخت: "إن الفن لا يتوجّب عليه أن يكون مرآةً للواقع، بل عليه أن يلعب دور المطرقة التي تعيد تشكيل المجتمع"، فعلى الفن، بحسب بريخت، أن لا يكتفي بلعب دور المرآة وإعادة تمثيل الواقع، وإذا ما تبنّينا هذا الرأي، فإن جميع الفيديوهات التي تحدثنا عنها في القسمين السابقين لا تعتبر فنًا، وإن كانت هذه المرآة بمثابة المثل الأعلى للفنّ من وجهة نظر أنطوان جالان.

لكننا في هذه الدراسة، لسنا بصدد تحديد دور الفن، بوصفه مرآةً للواقع أو انتفاضًا عليه، بل إن الحديث عن الفن بهذه الصيغة الشمولية ينتمي لحقبة ماضية، الحقبة التي استطاعت فيها الواقعية والأفكار الشمولية أن تسيطر على الفن؛ وتحديدًا بعصر الحداثة الذي تبلورت فيه معالم الموضوعية والعلمية والتقدم والحرية والفرد وما شابه؛ وأما بالنسبة للفن بالوقت الراهن فمن الأنسب تناوله وفقًا لمعايير العصر، أي المعايير الفنيّة لعصر ما بعد الحداثة، الذي من الممكن أن نحدد خصائصه بما يلي:

1. سقوط صفات عدم الانحياز والموضوعية والتوازن وغياب الغاية، فكلها إيديولوجيا.

2. سقوط الفكر الثابت والنخبوي والكلي.

3. سقوط المركز في كل مجال ومكان وزمان وخطاب كلامي.

4. سقوط التسلسل الزمني للأحداث التاريخية.

5. سقوط التعريف والتحديد والتصنيف والتبويب وكل نظام مشابه.

6. سقوط التمييزات الثنائية، مثل ما كان بين الحقيقة والخرافة.

7. نشوء الميتاخرافة في كتابة التاريخ، ومعها سقوط تصنيف الزمن إلى ماض وحاضر ومستقبل، وخلط الفترات والحقب الزمنية.

8. سقوط مبدأ عدم التناقض، الذي شكل حجر الأساس بالنسبة للحداثويين في الكتابة والتفكير، وسقوط مبدأ الاتساق المنطقي الذي كان يعتبر الهدف الأخير للحداثوية.

9. تزعزع مفهوم الهوية.

10. تزعزع الأمن والاستقرار والتوازن.

هذه المعايير لم توضع لتقييم الفنون في بلداننا التي لا تزال تبحث عن هويتها وتركيب المعنى؛ ولكن أغلب فيديوهات السيلفي التي قام السوريون بنشرها تنطبق عليها معظم المعايير، ومن الممكن أن نبدأ الدراسة بالقواسم المشتركة بين فيديوهات السيلفي، وهي:

- من الجدير بالملاحظة أن من قاموا بتصوير فيديوهات السيلفي بقصد استعراض آرائهم السياسية أو الثقافية أو لعرض موهبتهم الفنية أو تقديم عرض فني قصير من خلال تقنية السيلفي، ينتمون غالبًا لفئة الشباب، ومن الصعب العثور على أي نموذج خارج هذه الفئة، كما أن المخرجين السينمائيين ذوي الخبرة، لم يشاركوا بهذه الظاهرة، بل إن مستخدمي هذه التقنية هم من الهواة.

-بعض من قام بتصوير هذا النوع من الفيديو ينتمون للهوامش، وهم بعيدون عن المراكز السياسية والثقافية والفنية، ولكن هناك بعض فيديوهات السيلفي التي التقطها أشخاص من الممكن اعتبارهم منتمين إلى المركز فنياَ، كالممثلة ريم نصر الدين، لكنها بالفيديو تبتعد عن المركز الذي تنتمي إليه، وتقدم نفسها في مجال هي هامشية فيه، فهي تغني بالفيديو ولا تمثل، بل إن عنوان الفيديو "بدي غني"، يدل على رغبتها بأن تصبح مغنية وهي لا تزال هامشية بالنسبة لفن الغناء.

-إن أغلب فيديوهات السيلفي تبرز موقفا شخصيا ولا تتسم بالحيادية، ولا تحاول حتى أن تتوخاها. فالفيديوهات تبرز موقفا شخصيا واضحا، ولاسيما الفيديوهات التي تقدم مواقف نقدية بأسلوب الـ"ستاند أب كوميدي" الذي كان لنجومه الأسبقية باستعمال فيديو السيلفي في سورية على نطاق جماهيري، مثل تيم حناوي، الذي بدأ بعام 2014 بنشر فيديوهاته الساخرة والتي تبرز موقفه الساخر مما يحدث، وكذلك يبدو الموقف الشخصي واضحًا في فيديوهات السيلفي الإخبارية، فهي لا تدعي أنها تصف الواقعة كما وقعت، بل توجه رسالة واضحة من خلال الأحداث والأخبار الجديدة، كما يفعل هاروت كيحايان، الذي ينشر فيديوهاته في صفحة "ميكانيكي أزمة"، فهو يرفق آراءه السياسية مع جميع الأخبار التي يعلن عنها مهما بدت بعيدة، فعلى سبيل المثال، الفيديو الذي يسميه "فايروس وحمى زيكا يهدد بوباء عالمي" يقوم بالتحدّث فيه عن سخافة الفايروس زيكا إذا ما قارناه بفايروس الطائفية.

- يتطلّب فيديو السيلفي عنصرين فقط: هما الكاميرا والمصوّر، والمصور يقوم بسرد قصّة من وجهة نظره الشخصية، لذلك فإن السرد هو الشكل الغالب على الأداء في فيديو السيلفي. إلا إن هناك بعض المحاولات لكسر السرد أو تخفيف وطأته، من خلال إدخال بعض العناصر التجميلية، حيث يقوم تيم حناوي ومحمود الحمش باستخدام الموسيقى التصويرية، بل إن محمود الحمش يلجأ في بعض الأحيان إلى الأزياء والمكياج ليدخل عناصر جمالية على الفيديو، ويعطي قيمة مضافة للسرد، الذي يشكّل الكتلة الأساسية من الفيديو، إلا أن فيديوهاته يغلب الطابع السردي فيها على طابع الأداء؛ ولكن هناك بعض الاستثناءات، ففي فيديوهات عمرو مسكون يتخلّى فيديو السيلفي عن طابعه السردي ويستعيض عنه بالأداء والتمثيل وتبنّي الشخصيات التي يحاكيها، حيث يقوم بتجسيد مجموعة من الشخصيات وتنميط كل منها بزيّ معين، أو حتى بقطعة ثياب تميزها.

وفي فيديوهاته ثلاث شخصيات رئيسية، الأم التي ترتدي حجابًا، والابنة التي ترتدي باروكة، والابن وهو عمرو مسكون بأزياء مختلفة، وإن دخلت شخصيات أخرى على الفيديو فيشير لها بقطعة ثياب جديدة لا أكثر؛ والفيديوهات تسرد قصصا مضحكة لعائلة نمطية، والعناوين تفترض أن هذه الحالة عامة وتحصل في كل بيت، مثل قصة الأم التي تدرس ابنتها، أو قصة الابنة الكبرى السنوية في عيد ميلادها، وأحيانًا يخرج من حكايات العائلة النمطية، التي صور معظم فيديوهاته كيوميات لها، ويصور فيديوهات تحاول أن تنمط الناس بصورة أكثر عمومية، مثل الفرق بين ردة فعل الأهل العرب والأجانب على صبغ البنت لشعرها، أو أنماط البنات وكيف يتعاملون مع انتهاء العلاقات؛ فتبدو فيديوهات مسكون تركز على إبراز القدرات التمثيلية الشخصية لديه، فهو لا يتمسك بالطابع السردي الذي انطبعت به فيديوهات السيلفي، كما أنه لا يتمسك بكاميرة السيلفي؛ فبعض اللقطات غير مصورة بهذه الطريقة حتى. وكذلك فهناك العديد من المواهب التي استخدمت فيديو السيلفي كنافذة لاستعراض الموهبة الشخصية، مثل ليث سكليبس الذي يستعرض مهارته بالـ بفيديوهات سيلفي لكنها لم تلقَ رواج الفيديوهات السردية.

-السرد في فيديوهات السيلفي، غالبًا، هو سرد نقدي، والنقد عادةً يقتضي المعرفة، فالنقد الذي ينبغي أن لا يكون موقفًا ضديًا أو صادرًا عن جهل، بل صادرًا عن المعرفة المشترطة للتملك، وهذا يبدو واضحًا من طبيعة تعاطي المؤدي في فيديو السيلفي مع المادة التي ينتقدها؛ إلا أن نسبية المعرفة هي ما تجعل الأمور تبدو أكثر نسبية، واتباع النقد كشكل للسرد في معظم فيديوهات السيلفي الملتقطة ناجم عن كون المصورين ينتمون للهامش المتمرد على المركز، الهامش الفردي الذي بحث عن شكل جديد من أشكال التعبير وانتقاد ما هو سائد وكلي؛ إلا أن ذلك لا ينفي وجود بعض النماذج للمستخدمين لتقنية السيلفي كنافذة للتعبير عن ولائهم وانتمائهم للمركز، مثل عمار أورفه لي الذي يعرف عن نفسه كإعلامي ويستخدم السيلفي لترسيخ محبة المشاهير لدى الجمهور؛ فمثلًا، في فيديو "كوني متل أصالة" مثلًا، يقوم بمديح أصالة وهو يمسك هاتفًا ذكيًا آخر يرينا صورتها، وعمار أورفه لي يعتبر نموذجًا واضحًا للهوامش الذين يتسلقون هذه الأشكال الهامشية بغرض الشهرة والبحث عن نافذة أو فرصة للنفاذ إلى المركز.

-لا تبدو فيديوهات السيلفي موجهة لفئة ثقافية متعالية، ولا تحاول هذه الفيديوهات أن تكون نخبوية، بل على العكس هي موجهة للجماهير البسيطة التي تضحك وتتفاعل مع كل ما هو بسيط وغير متكلف؛ فينطلق محمود الحمش من الكلمات والمصطلحات التي تثير الضحكة عادةً عند أغلب الناس ويتكأ عليها ليكون قريبًا من الجماهير، ولا يهتم بالبحث عن الأصول اللغوية للكلمات أو التعامل مع الثقافة الشعبية بمنطق متعالٍ.

بيد أن بعض النماذج يتعالون على الجمهور مثل تيم الحناوي الذي يفترض أن ثقافة الآخر أو المتفرج أدنى من ثقافته، ولا يمنع نفسه من تقديم النصائح له ببعض الأحيان، مثل نصائحه للجالية السورية في تركيا، حيث يطلب من السوريين عدم التدخّل في السياسة التركية، وكأنه هو الشخص ذو الرؤية الشمولية أو الواعظ ذو المعرفة الكلية، ومع ذلك فإن كلا النموذجين يوجهان رسائلهما وفيديوهاتهما للعامة وليس للنخبة.

المساهمون