لصوصُ نواكشوط.. حكايات السّطو الرهيبة

لصوصُ نواكشوط.. حكايات السّطو الرهيبة

08 مايو 2017
(في رمال بلاج ديس بيشورس، توصير: أندرو واتسون)
+ الخط -

إذا كانت مدينة نواكشوط تُعرَف بمعالمها الجغرافية والعمرانية الشاحبة، فإنّها أيضًا تُعرف بلصوصها ومُجرميها. إذ هناك لصوص كبار يمارسون سطوهم العلني، وهم جالسونَ في مكاتبَ مريحةٍ مُكيّفة مع ظهورٍ دائم في الإعلام، كما أنّ فيها أيضًا لصوصًا صغارًا يمارسون سطوهم العابر في الطرقات الضيّقة والمظلمة بعيدًا عن أعينِ المارة.

وفي حين تلقى الفئة الأولى، المُكوّنة من اللصوص الكبار، احترامًا قانونيًا واجتماعيًا كبيرًا نتيجة انتمائها لأعلى الهرم الاجتماعي، فإنّ الفئة الثانية، المُكوّنة من اللصوص الصغار، تلقى احتقارًا هائلًا نتيجة انتمائها لأسفل ذلك الهرم الاجتماعيّ القائم على تراتبيّةٍ اقتصاديّة صارمة.

هذان النوعان من اللصوص يكادان يُشكّلان نقطة التأثير الأبرز في تاريخ نواكشوط المُعاصر؛ وهي نقطة تُعطي للواقع المعيشيّ حيويّته وهويّته الفعلية. فأشكالُ الهيمنة والتصارع والمرتبة المتجسّدة الآن هي بشكلٍ مباشر تقريبًا نتيجةٌ انعكاسية لسلوكيات هذه النوعية من ممارسي السّطو، إذ إنه كلّما قام النوع الأوّل بالسّطو على الممتلكات العامة للشعب من داخل مكاتب وظائفه السامية التي يشغلُ رسميًا، فإنّ النوع الثاني، كنتيجةٍ له، يقوم بالسّطو على الممتلكات الخاصّة للمواطنين العادييّن، مُعيدينِ بذلك إنتاج التفاوت، المعاناة، الجريمة.

هنا، أصبح اللصوص الصغار قريبين من الواقع، فمن جهة هم غالبًا نتاجٌ انعكاسيّ سلبيّ للسرقات الضخمة الخفيّة التي قام بها أصحاب المناصب الرفيعة، ومن جهة أخرى هم أكثرُ قربًا من الناس في حياتهم العادية اليومية. وهذا ما يستدعي طرحِ عددٍ من الأسئلة حولهم: في أيّ سياقٍ تاريخيّ ظهروا؟ وما هي مُميّزاتهم؟ كيف هي التصوّرات السائدة عنهم؟

أوّل شيءٍ ينبغي النظرُ له بعينٍ ناقدة في هذا الصدد هو تلك التفسيرات التي تردُّ ظهور هؤلاء اللصوص لأحداثٍ تاريخيّة ومسلكيّاتٍ اجتماعية غابرة، حيثُ إنّه لايمكن إطلاقًا التسليمُ بأنّ ممارسات النهب والسرقة والقتل القديمة، التي أكّدت بعض الدراسات الإنتربولوجية المتعلقة بموريتانيا على وجودها في سياق "السيبة" ماقبل الدولة الوطنيّة، تُشكّل جذرًا أصيلًا لعمليّات السطو المُمارسة من قبل لصوص نواكشوط، ذلك أنّ تلك العمليات هي في غالبيتها العظمى نتاج سياقٍ اجتماعيّ واقتصاديّ وثقافيّ حديث له شروطه الخاصّة به، وإن كان ذلك لا ينفي إمكانية استدعاء تلك الأحداث التاريخية تخيّلًا في سلوكيات السطو الحديثة.

مع عقد الستينيات، وإبّان نشأة موريتانيا الوطنية، كانت نواكشوط تتأسّس فعليًا لأوّل مرّة، بعد أن كانت منذ نهاية العشرينيات مركزًا إداريًا فرنسيًا ينحصرُ وجوده في قلعةٍ صغيرة على شاطئ الأطلسيّ. وقد بدت تلك النشأة واعدةً في ذلك الحين، خاصّة مع وضع أساسيات الدولة من بنًى تحتيّة أوليّة وتشريعاتٍ دستوريّة، ومع حلول عقد السبعينيات المفصلي تسارعت وتيرة التمدن بشكلٍ ملحوظ.

فكانت هناك فضاءاتٌ مدنية وعمرانيّة وتجاريّة وثقافية تشهدُ إقبال السكان، على الرغم من نزوحٍ قاطني الريف إلى نواكشوط، إثرَ الجفاف الذي حطّم حينذاك إمكانات عيشهم التقليديّة. وكان لذلك النزوح الهائل، من عموم تراب موريتانيا إلى نواكشوط الناشئة، تأثيراتٌ شديدة تجسّدت في ازدياد أعداد السكان، والتنافس على الخدمات الحضرية متدنيّة السقف أصلًا، إضافةً لذلك توسّع المحيط الجغرافيّ لها، نتيجة النمو السكانيّ المتسارع الذي بلغ 134704 نسمات في عام 1977.

في ذلك السياق الذي يُعدّ بداية تعرقل التقدّم الواعد لموريتانيا المدنية، نشأَت ظاهرة اللصوصيّة، عندما بدأ الناسُ، من خلفيّاتٍ عرقية واجتماعية متعدّدة، يسكنون قربَ بعضهم البعض لأوّل مرة، دون معرفةٍ سابقة؛ وعلى الرغم من التأثير الكبير الذي يعطيه بعضُ المراقبين لأفلام العصابات، التي كانت تُعرض حينذاك بكثرة في صالات نواكشوط السينمائية، من حيث المساهمة في نشأة ظاهرة السّطو.

إلا أنّ الملاحظ هو أنّ عمليات السطو التي كانت تحصلُ حينها، كادت تخلو من القتل السائد والمعهود في الأفلام، مُقتصرةً في الغالب على نهب الأموال أو ما يشكل قيمة ماديّة عادية. ومع ذلك فقد شكّلت تلك النوعية من الأفلام حينها تأثيرًا قويًا على فئةٍ فقيرة وأميّة من السكان أرادت تقمّص واقعها الهشّ والمُحتقن في تصوّراتٍ خياليّة بعيدة عنه.

ظهر لصوص نواكشوط، الذين قدموا من فئاتٍ اجتماعية فقيرة ومُهمّشة، مع تحوّلٍ اجتماعي وعمرانيّ واقتصاديّ واضح، فقد تسبّب تحوّل سكان الريف إلى العاصمة في تضخّمها بشكلٍ تعسفيّ تسبّب في إنشاء أحياءٍ هامشية غير شرعيّة تتميّز ببؤسها، في مقابل ذلك تسبّب في إنشاء أحياءٍ أخرى أكثر أصالةً مدينية وأفضل حالًا، وحصل ذلك في الوقت الذي بدأ فيه الفساد، كممارسةٍ رسميّة ترعاها السلطات، يغزو على نحوٍ رهيب الإدارة الموريتانية، مُخلفًا وراءه هشاشةً كبيرة في الخدمات المدنية، وتفاوتًا طبقيًا يُنذر بخطرٍ بدا واضحًا حينَ قَدِمَ أغلبُ اللصوص من الضواحي المُهمشّة، سعيًا وراء العيشٍ الكريم، متنافسين على احتكار السّطو في أحياء المدينة.

كان هؤلاء اللصوص يتميّزون بعددٍ من السّمات التي تُحدّدهم وتبرزهم، وهي سماتٌ لا تقف فقط على شكل اللباس أو الحلاقة الغريبيْن حينها بالنسبة لغالبية السكان، وإنمّا تشملُ أيضًا طريقة الكلام، حيث كان السباب العامي الحادّ مُرفقًا بكلماتٍ فرنسيّة ركيكة هو الآلية المعتمدة في الحديث عند التعامل مع الضحايا، الذين غالبًا ما يرضخون حين توضع السكاكين على رقابهم. إضافة لذلك توفّر سمات بدنية مكّنتهم من تنفيذ بعض العمليات الخطيرة، وهي عملياتٌ ترافقت أساسًا مع انتشار العصابات المنظمة التي غالبًا ما تنفذ غزواتها تحت الأقنعة السوداء.

وفقًا للسمات أعلاه كان سكّان نواكشوط يتصوّرون اللصوص ويتخيّلونهم، كما أنهم كانوا يتصوّرون اللصوص في مدينتهم استنادًا لتحوّلاتٍ تاريخيّة ثابتة في ذاكرتهم، حيث إنهم يكادون جميعًا يتفقون على أنّ سطو اللصوص القدماء كان يقتصرُ على الأشياء المادية فقط التي بحوزة الإنسان، دون أن يصلَ إلى القتل، مُوضحين أنّ الاعتداء الجسدي لم يندرج في ممارسة السّطو إلاّ منذ سنواتٍ قليلة فقط، حينما أصبحت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية متدهورةً لدرجةٍ كبيرة يرتفعُ معها منسوبُ الحقد والعنف.

ويصلُ الأمرُ ببعض السكان إلى القول، بمفارقةٍ مُضحكة اندهاشًا من الواقع الحالي، أنّ اللصوص القدماء كانوا إذا سطوا عليك في الشارع مثلًا يقولون لك: "دخّلْ شِي"، أي قدّم شيئًا، آخذين غالبية ما معكَ وتاركين لك ما تحتاجه كأجرة التاكسي، أمّا اليوم فهم أكثرُ عنفًا، ولا يتوقف سطوهم على الأشياء المصاحبة للإنسان، بل إنه يشمل روحه، إذا أظهر أيّ اعتراض.

هذا التصوّر الذي يُعبّر عنه بعض السكان، هو تصورٌ يأتي تبعًا للتحوّلات والتأثيرات التي تطرأُ على المدينة كلّما تقدّم الزمن، فبعدما كان السّطو في الماضي عاديًا ومتواريًا، لدرجة أنّ حوادث القتل الناتجة عنه لا يُسمَع بها إلا نادرًا، فإنّها اليوم تنتشرُ بشكلٍ كبير حوّل حياة المواطنين لما يشبه الجحيم، الذي أصبحت معه الحياة صعبةً، لدرجة أنّ مدينتهم الساهرة سابقًا غدت تنامُ باكرًا، وتنعدم فيها أيّ حياةٍ عموميّة عادية بعد تقدّم الساعات الأولى في الليل، بسبب الخوف الذي يعيشونه جرّاء التدهور الأمنيّ الحاصل الآن بقوّة، والذي جعل اللصوص يُتخيّلون كالأساطير الشبحية التي يبلغ تأثير رهبتها المرعب أقصاه عندما يُسدل الليل ستار ظلمته، على نحو ما في أغنية "نواكشوط يُفزع" لفنان الراب الموريتاني سكايب ولد الناس كاملة، والتي تسلط ضوء الكشف الغاضب على ذلك الخطر الأمني وسماته وتحالفاته الخفية.

المساهمون