باسل خرطبيل.. رُخامة أُخرى في الأرض السورية

باسل خرطبيل.. رُخامة أُخرى في الأرض السورية

08 اغسطس 2017
+ الخط -

إذا كانت الحرّية، كما وصفّها توماس جيفرسون، شجرةً يجب أن تتجدّد بين فترة وأخرى بدماء الوطنيين والطغاة، فإنّه من السهل تقديم للطغاة النافقين بتعريف يوضّح مثالبهم وأفعالهم في حقّ شعوبهم، لكننا نجد صعوبة في اختصار تجربة "شهيد" والتعريف به وبمآثره، فتبدو كلمات الرثاء قاصرة في توصيف حالته أو كيف سيذكره الناس ممن لم يعرفوه؛ هذه هي الحال مع باسل خرطبيل المعروف بـ باسل الصفدي.

الصفدي؛ ينحدر من أسرة فلسطينية لاجئة في سورية، وهو صاحب مسيرة عمل متألّقة في المجال التقني، وأحد المساهمين في مشاريع عدّة منها موزيلا وويكيبيديا، كما كان منسّق مشروع "المشاع الإبداعي" في سورية.

في الأوّل من آب/أغسطس، أكّدت زوجة خرطبيل إعدامه من قبل النظام السوري عبر صفحتها الشخصية على فيسبوك باللغتين العربية والإنكليزية، وخرجت منظمة العفو الدولية ببيان يوضّح الغضب والأسى لهذا الخبر، وبصورة أخرى يحمل تأكيدًا لحصول الإعدام في حقه، في أكتوبر/تشرين الأوّل عام 2015، بعد اعتقال دام ثلاثة أعوام.


قوننة الاعتقال التعسفي
النقطة المفصلية في قصّة خرطبيل هي وصوله إلى سجن عدرا المركزي، وتواصله مع أسرته، في كانون الأوّل/ديسمبر 2012، ثم نقله بعد ذلك إلى مكان مجهول. هذه الجزئية الصادمة هي جزءٌ من الطريق الكلاسيكي الذي تنهجه السلطات السورية لقوننة عمليات الاعتقال؛ فبعد بداية الثورة في سورية وتفعيل قانون محكمة الإرهاب، يمرّ المعتقل بعدّة مراحل قبل انتهاء اعتقاله، سواءً بالخروج من المعتقل أو تصفيته بشكل "قانوني"، وفق محاكمات ميدانية وعسكرية.

في ذاكرة السوريين كثير من القصص على مدى فترة حكم البعث، تفضي بخروج المعتقل ليلًا وتركه أمام باب الفرع الأمني في حالة يرثى لها، سواءً من آثار التعذيب أو جهله بالمكان الذي يوجد فيه، لكنّ هذه القصص تبدّلت مع بدء الثورة، مع إسباغ النظام الجانب البيروقراطي على هذه العملية.


الرحلة وتفرّعاتها
لا تقرّ الدولة السورية باعتقال أيّ فرد خلال تواجده في الفروع الأمنية، التي تمتاز بكثرة التعذيب والازدحام الشديد رفقة العوز التام للأدوية والغذاء. عقب انتهاء هذه المرحلة - ولا يشكل الذين خرجوا منها سوى جزء بسيط من مجموع المغيّبين في سورية- يُنقل المعتقلون إلى القضاء العسكري، وهناك تتمّ إحالتهم إلى واحدة من ثلاث محاكم تُعنى بقضايا "الإرهاب"، وفي ما يلي الاحتمالات الأكثر وقوعًا مع وجود هامش من الحالات لا تخضع لهذا التقسيم، نظرًا لأن المحاكمات شكليّة في معظمها ولا تستند إلى حجج في الإدانة أو البراءة.

المحكمة الأولى هي محكمة المدينة، ويوجّه إليها أشخاص لم توجّه لهم تهم محدّدة، أو الذين تمّ اعتقالهم عشوائيًا، وفي الغالب يُفرج عنهم خلال أيّام بعد إيداعهم في سجون الشرطة العسكرية في منطقة القابون بريف دمشق. بينما تختصُّ محكمة الإرهاب بالقسم الأكبر من المعتقلين، وتفرزهم النيابة العامّة إلى قضاة التحقيق في المحكمة، ويتمّ إيداعهم في سجن عدرا المركزي المختص بالجنايات كـ السلب والقتل والمخدرات، إلى جانب جناحٍ واحد معزولٍ عن بقية السجن يضم المعتقلين الإسلاميين؛ ويقع السجن في شمال شرق ريف دمشق.

في انتظار المحاكمة يلبث الموقوفون قرابة ثلاثة أشهر في الغالب، يتمتّع هؤلاء بحقوق محدودة مثل الزيارات، ويتم التعامل معهم كنزلاء أسوةً ببقية السجناء، ويحقّ لهم توكيل محامٍ؛ ويقتصر دور المحامي على معرفة أي قاض يختصّ بقضية الموقوف، ولا يُسمح للمحامي بالترافع أو الحديث حتى في حضرة القاضي.

يُخلى سبيل الموقوف في غالب الأحيان، إذا لم تتوفّر أدلة في حقّه، وبإمكانه إنكار أي اعتراف مسجّل له، كونه أُخذ تحت التعذيب ومهره المعتقل ببصمته من دون أن يعرف محتوى التهمة. وللقاضي الكلمة الفصل في تركه أو إحالته لمحكمة الجنايات التي تتراوح أحكامها بين ثلاثة إلى ثمانية أعوام.

بخلاف كل ما سبق؛ يُحال جزء من المعتقلين ممن ثبت عليهم الانشقاق أو تأمين الأدوية أو المشاركة في نشاطات معارضة للدولة إلى محكمة ميدانية عسكرية؛ ولا يحقّ لهم توكيل محام، ويصدر الحكم في حقّهم غيابيًا، والأحكام تتراوح بين عشرين عامًا والإعدام. هؤلاء يتمّ إيداعهم في سجن صيدنايا سيئ السمعة، مقارنة بسجن عدرا المدني. لكن القصص السائدة في سورية تؤكد حدوث عمليات نقل بين السجنين، صيدنايا وعدرا، من دون معرفة واضحةٍ للأسباب، ويُرجّح أن يكون السبب الرئيسي ازدحام سجن صيدنايا. وعلى صعيد آخر، فإن هذا التحويل يشكّل عملية تعذيب للسجين، نظرًا لجهله بالمكان الذي يُنقل إليه، ولخسارته أبسط حقوقه التي كسبها مثل الثياب أو قدرة التواصل مع أسرته.

الأكيد أنّ أي معتقل يعرف منذ مروره إلى القضاء العسكري إلى أيّ محكمة تُحال قضيّته، وخلال انتظاره في أحد السجون السابقة يعرف مصيره وسيرورة الأحداث التي سيمرّ بها. وعلى هذا يتضح أن خرطبيل كان قد أُحيل إلى محكمة عسكرية ميدانيّة وأودع في سجن عدرا ثم نقل بعدها إلى صيدنايا، حيث نُفّذ في حقّه حكم الإعدام - في بعض الحالات يتكرّر الانتقال أكثر من مرّة - رفقة آخرين جاوروه أيّام سجنه، وليس من سبيل لمعرفة عددهم أو أسمائهم، هذه العملية دورية وجزء من نظام "قضائي" وسلطة "قضائية" يُفترض بها أن تكون مستقلّة.

يبقى هناك احتمال أن تكون حالة خرطبيل عشوائية ولا تستند إلى هذه المنظومة المعروفة لمعظم الباقين تحت نير النظام السوري، وهذا أوجّ التحدّي، حين يضع النظام نظامًا قضائيًا غير مستندٍ لأي معايير حقوقية، ثم يخترقه غير آبهٍ بها. هكذا يستمرّ النظام في وضع المجتمع الباقي في مناطق سيطرته تحت رحمة الاعتقال التعسفي في أي لحظة ومن دون عناء تجهيز تهمةٍ للمعتقلين، ليضع الجميع في ظلّ الرعب من الاعتقال والتصفية، وابتزاز أهالي المعتقلين والمغيبين ماديًا مقابل الحصول على خبر عن ذويهم دونما تأكيد إن كان الخبر صحيحًا في المقام الأوّل.


كلنّا باسل
مضت فترة طويلة قبل أن يقف جميع مؤيّدي الثورة السورية -من السوريين أنفسهم- على صفٍّ واحد، في موقفٍ تجاه ما يحصل في البلاد، فتضارُب الأجندات والمعايير المختلفة بين كل ناشط وآخر أو جهةٍ وأخرى، سبّب شرخًا يبدو عصيًّا على الالتئام، لكن خرطبيل المعروف بسلميّته وفكره الرائد وضع الجميع عند النقطة نفسها التي يتقاسمها الحنين لزمن الثورة والغضب على فقدان شابٍ أخلص لقضيته في مواجهة آلة فتك النظام.

هذه الاستعادة أو البلوغ المتأخّر لم يعد ذا أثر فاعل في المجتمع السوري الذي يخضع لسلطات متعدّدة تمارس معظمها أساليب لقهره، فليس لنا أن نطالب بأن يلتف الجميع حول خرطبيل أو غيره وتحويله إلى رمز يحثّ على فعلٍ وطني في البلاد الممزقة التي تتعدّد راياتها، لكنّه ربّما يُعيد الصورة التي غابت عن الثورة التي بدأت قبل ستة أعوام، ولا يزال من بدأوا بها وآمنوا بها يدفعون أثمانًا باهظة مقابل انجراف عالميّ نحو القضاء على الإرهاب، وخمول شعبيّ يبحث عن وسائل العيش الأوليّة، في ظل انعدام الخدمات والأمن والخذلان الدوليّ.

فلسطينية باسل كـ فلسطينية المخيّم، لم تكن عامل استثناء، بل هي مزيد من الأسباب للثورة بالنسبة لهم، ومزيد من الأسباب لدفع النظام إلى الفتك والحصار. وما يثير السخرية موقف السلطة الفلسطينية من الانتهاكات التي يتعرّض لها الفلسطينيون السوريون، سواءً بما يحصل في المخيّمات في سورية؛ وأكبرها على صعيد الحجم والمأساة مخيّم اليرموك، وكذلك الزج بالشباب الفلسطيني في معارك النظام تحت لواء جيش التحرير الفلسطينيّ الذي يعدّ جزءًا من الجيش السوري.

قصّة باسل تعود لتصفع العالم كقصّة ظهرت على السطح ووصلت إلى صحف عالمية مثل الغارديان، وتقول إنّ السوريين ليسوا أرقامًا فقط، وإن معظم القصص لم نسمعها بعد، ومن العَصيّ أن تجد من ينقلها إلينا ممن بقي هناك في الأقبية، حيث يوجد أعدادٌ يصعب تخيّلها وأمراض ناجمة عن التلوّث يعجز السوريون عن تحديدها، ناهيك عن طرق العلاج التي يتّبعها المعتقلون من دون أدوية بأساليب تنتمي للقرون الوسطى في سعيهم نحو يوم الإفراج، من دون أن يعلموا أن رحلتهم على وشك البدء في محاكم النظام.

بالحديث عن الأرقام، تمتلئ ذاكرة السوريين بأرقامهم وتواريخهم الخاصّة وفق المأساة الشخصية المتزامنة مع مأساة البلاد، ليكون مثلًا في حالة خرطبيل أن خبر إعدامه قد وصل في يوم "الجيش السوري"، وذكرى اعتقاله تعود ليوم ميلاد الثورة في الخامس عشر من آذار/مارس، لتزيح المواعيد الشخصية المواعيد الكبرى، وتطغى المأساة الشخصية التي سبّبها النظام على ما سطّره الشعب يومًا.

المساهمون