من مدرّجات المقهى: "منتخب مصر كويس واحنا اللي وحشين"

من مدرّجات المقهى: "منتخب مصر كويس واحنا اللي وحشين"

06 فبراير 2017
(القاهرة/ نهائيات كأس أفريقيا، الصورة: محمد الشاهد)
+ الخط -




الساعة السابعة مساءً؛ بقي من الزمن ساعتان على المباراة النهائية لكأس الأمم الأفريقية؛ الطرق مزدحمة بالسيّارات؛ خالية من الراجلين؛ لا صوت يعلو فوق صوت الصافرات؛ والأبواق التي تطلق نغمة واحدة؛ تنتهى جميعها في اللحظة ذاتها بهتاف موحد"مصر"، لسنوات خلت لم يُسمع في مصر هتافٌ موحّد في ميادينها، وأضحت التجمّعات تثير الريبة؛ وصار مشهد الأعلام المرفوعة حدثًا يثير استغراب البعض من غير متابعي الأخبار الرياضية "هو في إيه الناس رافعة العلم في كل حتة ليه؟"، تتساءل السيدة الريفية المارّة مصادفة أمام جموع الهاتفين؛ فيجيبها أحدهم "النهاردة ماتش مصر يا حاجة في نهائي أفريقيا"؛ تبتسم من القلب وهي تطرد الخاطرة التي جالت ببالها وتمسك بيد زوجها وتكمل مشوارها "افتكرتهم عملوا ثورة تاني وأنا معنديش خبر".

30 يونيو 2013، آخر ظهور للعَلم المصري في ميادين المحروسة؛ أربع سنوات غاب فيها العلم عن المشهد، بعد أن تربّعت صورة البيادة فوق رؤوس المصريين، والتف بعضهم بأعلام بلدان أخرى، قبل المباراة النهائية في البطولة الإفريقية؛ ظهر العلم جليًا مع الباعة الجائلين، يعرضونه بكافة المقاسات وبأعلى الأسعار، والجميع يشتري دون تردّد استعدادًا للحظة الاحتفال، فكما قيل في الأثر "زي ماقال الريس..منتخب مصر كويس".

لكن الرئيس هذه المرّة لم يخبرنا عن منتخب مصر قبل المباراة، واكتفت مواقع الأخبار بنقل أخبار مكالمته الهاتفية للاعبين، داعيًا لهم بتمام التوفيق، و للمصريين باكتمال الفرحة، اقتربت المباراة؛ امتلأت المقاهي بالنساء والأطفال، غابت الشيشة عن معظم المقاهى وظهرت ساندوتشات الأطفال، وأكياس التسالي والفشار، عُلّقت الأعلام فوق المقاعد، وتراص الجميع صفوفًا، أغلقت شوارع بأكملها في مشهد نسيته مصر منذ مباراتها مع هولندا في كأس العالم 1990، انطلقت صافرة الحكم تُعلن الدقيقة الأولى من زمن الشوط الأوّل، وحبست مصر أنفاسها.

مع ضربة البداية، تحوّل المقهى الصغير، إلى ملعبٍ لا يختلف كثيرًا عن ذلك الذي يتابعونه عبر الشاشة العملاقة؛ 11 لاعبًا في الملعب، يتابعهم ويعلّق عليهم أكثر من 300 مشاهد للمباراة في أحد المقاهي على نيل القاهرة، يبدو المنتخب المصري قادرًا على شن هجوم على شباك غريمه الكاميروني، تتعلّق الآمال بأقدام اللاعبين كلّما اقتربت من الشباك؛ يقترب صلاح فى إحدى الضربات من إصابة الهدف؛ لكن الكرة اللعينة لا تطاوعه؛ يتوسّط الحضري مرماه؛ واثق الخطوة؛ سدا عاليًا؛ لا يهاب سرعة الكاميرونيين؛ ولا يخشى اقترابهم من عرين الأسد، فمع كل تسديدة؛ كان يبدو قادرًا على حماية شباكه جيّدًا، من اليمين يقترب وردة، يمرّر كرة سريعة لصلاح؛ الذي ينقلها خفيفة للنني؛ فيسدّدها على يسار الحارس الكاميرونى "يا نني غول.. غول غووووووووول".

"يا مصري.. احكم بأحكامك.. الزمان زمانك.. والمكان ليس مكانك"، كلمات المعلّق التونسي؛ رؤوف خليف؛ بعد هدف النني الذي "ولع النار" كما قال المعلّق، رغم أنه لم ير مصر وقتها، التي أضاءت سماءها بعشرات الصورايخ، وانطلقت في هدأة ليلها أصوات الشماريخ؛ تُعلن بداية الاحتفالات؛ فقد أضحى النصر حليف المصريين؛ واقتربوا أخيرًا من تحقيق الحلم؛ ولن يتركهم الربّ يبيتون تلك الليلة من دون الاستجابة لدعوات 90 مليون مصري "يارب تمّم فرحتنا واعطينا من فضلك مش على أد نيتنا يا رب".

انتهى الشوط الأول، وبقي من الزمن 45 دقيقة؛ 2700 ثانية من الانتظار القاتل؛ لا يريد المصريون هدفًا آخر؛ يريد الجميع الحفاظ على هدف النصر؛ والتكتّل حول شباك الحضري لمنع أي محاولة للتسلل؛ لكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، جاء هدف التعادل في الثلث الأخير من الشوط الثاني؛ لا بأس؛ ضربات الجزاء فى صالح المصريين؛ فسدّهم العالي حصن منيع ضد ضربات القدر الجزائية؛ تحتبس الأنفاس من جديد؛ فى انتظار صافرة النهاية "يارب ماتبخلش علينا بفرحة واحدة"؛ على مضض يحاول البعض أن يتمسّك بالأمل فيعاودون رفع الأعلام؛ ويبدؤون في الهتاف؛ لكن لا مشاركة تشجّعهم؛ يصمتون "يارب ننجز بقى ونوصل لضربات الجزاء"، يقولها أحدهم؛ فيردّ آخر "ده لو ماجاش الغول التاني"؛ تنتهى الجملة وترتفع أصوات الشاشة العملاقة "الهدف الثاني للكاميرون"، في الدقيقة 83 جاء الهدف الثاني للكاميرون، وفرح الكاميرونيون رغم دعوات المعلّق التونسي "ابكي يا كاميروني ومش هتفرح الليلة يا كاميروني"، وبكى المصريون.

لم ينتظر مشاهدو المباراة صافرة النهاية، بدأ بعضهم يلملم أشيائه مستعدًا للمغادرة، غابت الابتسامة من الوجوه، انطفأ بريق الأعين التي ملأها الأمل لساعات؛ نُكّست الأعلام التي عادت للسماء؛ فلم تجد لها مكاناً بين النجوم؛ انهالت الشتائم تضرب السدّ العالي الذي لم يحم شباكه من هدفين في ختام البطولة التي قضاها بطلًا؛ النني الذي أعطاه الجميع حقّ قدره بعد هدفه الأول في الكاميرون؛ نال نصيبه من السبّ والقذف بعد أن أضاع آخر فرصة لمصر عبر الكرة التي أطاح بها في سماء الغابون بدل الشباك الكاميرونية، في صمت المشيّعين خرج أهل مصر من المقاهي في طريق عودتهم لمنازلهم، الشوارع التى كانت تستعد لاستقبال الأفراح، أدهشها صمت المارّين بها؛ قوّات الشرطة التي تأهّبت لتأمين الاحتفالات أصابتها خيبة الإحباط؛ قلّة من فرحوا لهزيمة المنتخب، فكيف تفرح مصر وفي سجنها "المُنتخب".