"الميمز".. كالعدوى أو أسرع بقليل

"الميمز".. كالعدوى أو أسرع بقليل

27 فبراير 2017
(memes/ فيسبوك)
+ الخط -



يوصف الإنترنت اليوم، ولو على سبيل المزاح، بامتدادٍ شاسع يعج بصور القطط و(الميمز Memes)، ورغم أن هذا الحصر أو التعميم يفتقر إلى الدقّة ويُغفل نواحي عديدة تجعل "الحضور" على الإنترنت مصطلحًا أدقّ من "استعماله"، إلا أنه في الواقع يسلّط الضوء على نمط اتصالٍ آخذٍ في التوسع والتضخّم، يجعل من المزحة السابقة نفسها، وعلى المدى الطويل، Meme في حدّ ذاتها، بكل ما لهذا المصطلح من خصائص وإشكاليات تسبق توظيفه الحالي كما نعرفه على صفحات وسائط التواصل الاجتماعي ومختلف مفرزات الـ Web 2.0.

ورغم أن الكلمة Meme بشكلها هذا تُعطي انطباعًا بكونها قد اصطلحت في هذه الفترة، إلا أنها وفي الواقع تعود إلى ريتشارد دوكنز، الذي أوجد المصطلح هذا في كتابه "الجين الأناني" مقاربًا بين التطوّر الطبيعي وذاك الثقافي، ومستمدًا إيّاها من الأصل اليوناني mimema، أي الشيء المُقلَّد، ثم قام بتحويرها لتشابه كلمة Gene الجين، ليؤكّد التشابه بين المصطلحين من حيث القدرة على التناسخ، والاصطفاء، والتطوّر.

عرّف داوكنز حينها "الميمز" بوصفها وحداتٍ أو عناصر ثقافية، تنتقل من فردٍ إلى آخر عبر النسخ أو المحاكاة خاضعةً –مثل الجينات-إلى التغير والمنافسة والانتقاء، وأورد حينها أمثلةً على ذلك كالنغمات، أو العبارات، أو الموضة، وصولًا إلى المفاهيم المجرّدة.

ورغم ما تبع المصطلح من اهتمامٍ بالشأن هذا، من بزوغ حقل الـ memetics إلى المؤلّفات التي تبعته ككتاب "آلة الميم" لسوسان بلاكمور، وتضارب الشأن حول الداعي لوجوده، إلا أنه أخذ شكلًا مغايرًا في السنوات الأخيرة، في عصر السوشال ميديا تحديدًا.


بعيدًا عن طاولة التشريح
العودة إلى غوغل تريندز، بحثًا عن الفترة الأدق لبدء تداوله تُفيدنا بأن عام 2012 كان نقطة العلام، ناقلةً المفردة بمعناها الجديد وممارستها إلى مستخدم الإنترنت العادي، الذي أصبح يجول بحرية وتفاعلية في بيئة تواصلية جديدة تسمح له، بالدرجة الأولى، بترك بصمته الإلكترونية عبر تنوعٍ في المحتوى وسهولةٍ في رفعه أو مشاركته، أو نسخه، فيما سيشكل القوام الرئيسي للوحدات هذه وبقائها، ولو لفتراتٍ أقصر، وهي أهم الفروقات بين "الميم" في الحقل الأكاديمي وذاك المتداول اليوم.

نعرف 'الميم' اليوم كنوعٍ من المحتوى (نص أو صورة أو فيديو) الذي ينطلق، في بيئةٍ متداخلة بين الميكرو والماكرو، من مستخدمٍ واحد أو عدة مستخدمين إلى شريحةٍ أوسع، سواءً عبر المشاركة الحرفية السريعة، أو ببعض التعديلات، تجعل المحتوى السابق دارجًا، متخطيًا فوارق جغرافية أو ثقافية، ومعتمدًا على لغة الصورة بشكلٍ رئيس ليحقّق هذا التخطّي والانتشار.

وعند النظر إلى هذا المحتوى القادر على التناسخ بسرعةٍ فائقة فإن ما يشد انتباهنا ثلاث نقاط: المحتوى، وطريقة العرض، والموقف أو الغاية. وبشكلٍ عام فإن غالب العناصر التي تنضوي تحت هذه التسمية؛ "الميم"، تكون صورًا بالدرجة الأولى، تستند إلى نصٍ قصير مفتاحي، وموقف أميل للسخرية عادةً.

والواقع أن جوهر الانتشار متعلّق باجتماع هذه العناصر، فالصورة اليوم بقدرتها على النفاذ والتعبير دون الحاجة إلى خلفيةٍ أو معرفةٍ مسبقة تجعل نجاحها متعلقًا فقط بفرادتها وقدرتها على إثارة رد الفعل، هذا قبل التطرّق لما سيرافقها لاحقًا. أما النص المرافق فرغم أهميّته في جذب "الميم" وتقريبه من شريحةٍ ما إلا أنه يحل ثانيًا، ويستند دائمًا وبالضرورة إلى القراءة المسبقة التي تفرضها الصورة، ولنأخذ مثالًا "براين سيئ الحظ Bad Luck Brian"، فالصورة الأساسية هي لشابٍ يرتدي تقويمًا للأسنان، أحمر الشعر، قبيح الهيئة في صورةٍ شخصية، يرتبط عبر النص المرفق بالحظ السيئ. ما نراه على صعيد المحتوى صورةٌ شخصية لشخصٍ واحد يسهل جعله مادةً للسخرية بشكلٍ واضح، دون حاجةٍ لما يسبق أو يمهّد لذلك، ويساعد على ذلك عنصرٌ بصريٌ فج يُمكِن لأي متلقٍ حول العالم أن يشعر به.

في سنة 2012، وصل البحث عن هذا الميم ذروةً بلغت 100 مليون مرّة، بعدها بأشهر يوضح المؤشر في تريندز أن نتائج البحث عنه في مصر مثلًا بلغت حدًا قريبًا من تلك الذروة، وأصبح من السهل تتّبع التحويرات التي خضع لها "الميم" ليصبح مصريًا على فيسبوك، ومقدار الانتشار الذي حققه.


لم هذا الانتشار؟
بعد التأكيد على أن الموقف من القضايا التي تُطرح عبر أسلوب التواصل هذا يميل إلى السخرية غالبًا، لا بد من الإشارة إلى أن هذه السخرية تأخذ أشكالًا عدّة، منها ما يتعلق بالثقافة الشعبية والحياة اليومية، وتصل إلى المدارس الفلسفية والمعارك السياسية الراهنة، ما يضمن منذ البداية تنوعًا في الشرائح التي يمكن أن تميل إلى تقبّل "الميم".

ثم إن اشتراك الأشكال السابقة كلها في الخروج عن نطاق المألوف أو المقبول أحيانًا يضمن استمرارها، فالسخرية قديمةٌ قدم السياسة أو الفلسفة، تستند إلى وتوازي الحدث اليومي، لكنها اليوم تصبح متاحةً أكثر، متداولةً أكثر، على عكس أشكال السخرية أو التعبير الأخرى تتطلب قدرًا أقل من الاحترافية، يمكن لأيٍ كان أن يكون موضوعها أو صانعها أو مشاركها. ناهيك عن أن أسلوب أو شكل العرض هذا، رغم احتوائه أحيانًا أفكارًا مرفوضة للبعض، إلا أنه يسمح لهذه الأفكار بالعبور كخروقٍ أو مخالفاتٍ "بيضاء"، قد تثير قدرًا أكبر من التهجّم لو طرحت بشكلٍ آخر، والدليل أن الأخبار بين الفترة والأخرى تورد ذكر متّهمين بجرائم إلكترونية لا يعون ما حدث، "لأنه كان مجرّد ميم فقط!".


أكثر من أي وقت مضى
عاش العالم صيفًا حارًّا العام الماضي، راقب سباق الانتخابات الأميريكة، وصعق بخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي قبل فريقها الكروي في بطولة أمم أوروبا، وأكمل نظرته القلقة إلى الشرق الأوسط الذي لا تهبط فيه "درجات الحرارة". حتى اليوم، لا تزال هذه الأخبار وعواقبها مصدرًا للتعليق، للسخرية من دونالد ترامب، أو لدعمه كما حدث في موقعة "الضفدع بيبي" التي شهدت تصنيف "ميم" كرمزٍ للعنصرية. وما يهم فعلًا أن "الميم" لم يعد اليوم مرتبطًا بالتعقيب فقط، بل أصبح بشكلٍ ما محرضًا لانتشار الأفكار السياسية في حد ذاته، وجعل منها عبر شكله مادةً رائجة، تجذب عددًا غفيرًا من المتابعين الذين لم يكونوا قبلًا على تماسٍ معها.

تجد عشرات الآلاف في مجموعة فيسبوك مخصصةٍ لـ "الميمز الماركسي". وبدرجةٍ أبعد، وصلت حماها للسياسيين، كما حصل في المعركة قصيرة الأمد بين هيلاري كلينتون وجيب بوش على تويتر، التي كانت ترسانتها مجموعةٌ من الصور.

وعلى عكس الكثير مما وفرته تكنولوجيا الاتصالات لا يُمكِن النظر إلى هذه الظاهرة بكثيرٍ من الاطمئنان أو الارتياح، فمن جهة قد يبدو الموضوع برمّته تطبيقًا آخر للديمقراطية، لكن وعلى صعيدٍ آخر، تلوح تساؤلاتٌ مثل: هل بالإمكان حشو فلسفةً أو غيرها في صورةٍ وتعليق، حتى ولو كان الشكل يحقق الانتشار؟ ألا يشكل هذا الطمس لجانبٍ كبير من العملية الاتصالية واعتمادها على التناسخ والتكرار خطرًا على العملية نفسها؟ وعلى اللغة التي يتهدّد وجودها بعوامل عدة كالاعتماد المتزايد على بدائل صورية أكثر وأكثر للتواصل؟

يذكر مارشال مكلوهان في كتابه "فهم وسائل الاتصال، امتداد الإنسان" ما قاله أليكسس دو توكفيل عن دور الاعتماد على الطباعة في خلق نوعٍ من الاستمرارية والوحدة الخطية، انعكست كلّها على المجتمع نفسه، والقوانين والتغييرات التي أصابته واستطاع توكفيل قراءتها مسبقًا في كل من فرنسا والولايات المتّحدة، بينما أعاقه غياب دور الطباعة عن إجراء نفس الشيء في إنكلترا، ما جعله يصف محاولة دراستها حينها بضربٍ من ضروب الغباء.

إن النظرة إلى التكنولوجيا بشكلٍ عام، والمتعلّقة بالاتصال خصيصًا، بوصفها جانبًا فقط من جوانب النشاط الإنساني قاصرة، فهو وبشكلٍ أدقّ جانبٌ يحرّك الجوانب الباقية، يؤثّر بها واليوم بات يقودها بشكلٍ رئيس. على ضوء هذا، فإن النظر إلى التغيير الذي يُصيب العملية الاتصالية قد يسمح لنا بالحديث ولو بشكلٍ مبكر عن نموذجٍ للأفراد المستقلين شكليًا، عبر بوابات اتصال فردية، متشابهين ضمنيًا بتفاصيل مرعبة، كالمواقف وردود الأفعال، وسبل التعبير عنها، ليس بسبب تعرّضهم للرسائل ذاتها وحسب، بل لتمريرهم إياها وتبنيها ضمن أنماط السلوك ونطاق المُعاش اليومي.