قرية القصر.. حجر من كل حضارة

قرية القصر.. حجر من كل حضارة

12 نوفمبر 2016
(قرية القصر/ مصر الغربية، تصوير: دي أغوستيني)
+ الخط -
لا يعلم كثيرون، أن القرية التي لجأ إليها كريم عبد العزيز ومنى زكي في الفيلم المصري "أبو علي"، هربًا من الشرطة المصرية، أحد أهمّ القرى الأثرية الشاهدة على آلاف السنين من التاريخ المصري.

ففي عمق الصحراء، وعلى امتداد حارات ضيّقة متشابكة، تتراصّ بنايات قرية القصر الأثرية، والموجودة في واحة الداخلة بمحافظة الوادي الجديد في الجنوب الغربي بمصر، وحين تشتد درجات الحرارة خارج القرية في الصيف، تكون درجة الحرارة داخلها ألطف بكثير وكأن سحرًا ما يحيط بأجوائها.

"عروس الداخلة"، هكذا يطلق سكّان المدينة عليها، فالطراز الهندسي للقرية، وتاريخها الذي تمتد جذوره إلى آلاف السنين في صحراء الوادي، يجعلها أحد القطع الأثرية الفنية الجميلة تُمكّن زوّارها من التجوّل بين العصور المختلفة، وسط مبانيها العتيقة.

حضارات متعاقبة
على بعد 32 كيلومترًا من مدينة موط، العاصمة الإدارية مدينة الداخلة، تقع قرية القصر، والتي تحمل هذا الاسم نظرًا لتشييدها على بقايا قصر روماني قديم، فالحياة على التلّة المبنية عليها، يعود في الأصل إلى العصور الفرعونية، وكان يوجد بها معبد "تحوت"، ثم جاء الرومانيون، وبنوا فوقها قصرًا كبيرًا، إلا أن ذلك لم يصمد كثيرًا، بسبب عوامل طبيعية وحروب شملتها المنطقة.

صمُدت أطلال المباني الفرعونية والرومانية فوق التلّة، إلى أن بدأت هجرة القبائل الإسلامية إليها، وذلك في عام 50 للهجرة، حيث كانت قبيلة خلف الله التي استوطنت التلّة، أولى القبائل القادمة من أسيوط، وباستخدام أحجار البنايات القديمة، بدأ تشييد أولى بنايات القرية الجديدة.

حافظ السكان الجدد على بقايا معبد "حتحوت" شاهدًا على التاريخ الفرعوني في القرية، بينما استخدمت الأعمدة الرومانية كأساس لبنايات القرية الجديدة، ومع استمرار هجرة القبائل إليها، بنت كل عائلة حارةً خاصة بها، وكانت كل واحدة من هذه العائلات، تختص بحرفة ما، فكان هناك حارة النجارين، والحدادين، وصانعي الفخّار وغيرها من الحرف اليدوية التي كان يشتهر بها أهالي الواحة في ذلك الوقت.

و من حقبة إلى أخرى، استمرت بنايات القرية في التنامي، حتى جاء العصر الأيوبي في مصر، والذي شكّل طراز القرية الحالية، ومكوّناتها المعمارية.

حصن الطبيعة
من الشرق يحدّ القرية بئر "عين الحامية " الجاف، وهو أحد الآبار التي تتمتّع بها القرية، وتستخدم مياهه في الاستشفاء، أما من الجنوب، فيبرز مسجد نصر الدين، وهو أحد شيوخ القرية في ذلك الوقت، بينما في غربها، يقع مقام الشيخ حمام، وفي الشمال ضريح الشيخ أبو بكر، وجميعهم من شيوخ القبائل الإسلامية التي كانت تستوطن القرية.

للقرية طراز معماري متميز؛ تستطيع أن تلحظه بمجرد التجوّل فيها، ما زالت مبانيها شاهدًا على عبقرية التصميم، فالحارات الضيّقة والارتفاعات المضبوطة، تمكّن القرية من حفاظها على درجة حرارة منخفضة، رغم وجودها وسط حرارة الصحراء الحارقة صيفًا. تصميم يعمل على انسيابية دخول الهواء البارد وخروج الهواء الساخن، بل ويحميها من الغارات الرملية.

أما بيوت القرية، فكل منها يتّسع لعائلة بكل أفرادها من الأولاد والأحفاد، وعلى عكس البيوت الحالية، فالبيوت في قرية القصر، عبارة عن غرف تسع كل واحدة منها عائلة كاملة، بينما غرف المعيشة والمطبخ ودورات المياه مشتركة بينهم.

في العصر الأيوبي، شهدت القرية ازدهارًا كبيرًا، فشيّدت الطاحونة والمحكمة والمدرسة، وبناياتها الثلاث شاهدة حتى الآن على تلك الحقبة، ويستطيع الزائر أن يرى اليوم كيف كان يعيش الناس وقتها ويتدبّرون أمورهم.

سكّان التاريخ
يتقدّم مدخل القرية مئذنة ضخمة على الطراز الأيوبي، والتي ستلحظ أن بها فتحات أيضًا للمراقبة، يساعد على نظام الحماية من الدخلاء، كان يستخدمه سكان القرية حتى عصر الدولة العثمانية، وكان يشمل غلق بوابات القرية عند العاشرة مساءً ولا يتمّ فتحها إلا عن طريق شيخ كل حارة، خوفًا من أي غارات خارجية.

القرية مسجّلة ضمن الآثار الإسلامية والقبطية النادرة في وزارة الآثار المصرية، وتقريبًا، معظم بناياتها فارغة، إلا بعض البنايات التي ما زالت يسكن فيها ورثتها ويحافظون على حرفهم بها.

في سنة 2007، قامت عاليا حسين، أستاذة بكلية الآداب قسم الاجتماع بجامعة المنيا، بشراء أحد بيوت القرية وتحويله إلى متحفٍ يعرض عددًا من الآثار التاريخية الشاهدة على التطوّر الاجتماعي للقرية، مثل الملابس القديمة، مفروشات العروس، أدوات الطهي والزراعة والحلاقة.

القرية تعد أيضًا واحة للاستشفاء والعلاج من الأمراض الجلدية والروماتيزم، حيث تشتهر بالعيون الكبريتية والمعدنية، ويلجأ الزوّار إلى التداوي بطمي هذه الآبار، لما لها من خواص استشفائية.

الملفت، أن الدخول إلى القرية يكون بدون دفع أيّ رسوم، وتعدّ أحد الوجهات الرئيسية التي يتضمّنها برامج رحلات السفاري المعروف في صحراء الوادي الجديد.

المساهمون