"نغمة الحرمان".. أغانٍ بمثابة شتائم صريحة

"نغمة الحرمان".. أغانٍ بمثابة شتائم صريحة

17 اغسطس 2017
(تفصيل من عمل لـ نزير الطنبولي / مصر)
+ الخط -

بغضّ النظر عن اللغط المثار حول ألبوم الميغا ستار عمرو دياب الأخير، "معدي الناس"، والتفسيرات التي اقتُرِحت للأغاني الساذجة، باعتبارها رسائل شخصية؛ ما غطّى على الاستقبال النقدي الفني عند الغالبية، يظل ألبوم عمرو دياب هو علامة بدء  موسم الصيف الحقيقية.

تأخر صدور الألبوم حتى تمّ تجهيز أغنيتين من تلحين عمرو مصطفى، وواحدة من كلمات أيمن بهجت قمر، هي "نغمة الحرمان"؛ الأغنية التي أثارت موضوع هذا المقال: "ماسكلي فـ نغمة الحرمان وعمال تحكي و تهول.. وجعتك؟ ده إنت توجع بلد. في إيه هو إنت اشتريتني؟ هسيبك وأخسرك للأبد.. ده كان ناقص تموتني!".

إذا افترضنا أن الكلمات السابقة هي مشهد سينمائي؛ فالنبرة التي نتخيلها هي الصراخ، أو ما نصفه بالعامية بـ "الردح". وهو وصف لطريقة معينة في النقاش، تفتقر إلى اللباقة. فما الذي جعل هذا الشكل ليس فقط مقبولًا، بل معتمد اجتماعيًا، خصوصًا بين حبيبين انفصلا، مثلًا.

الأغاني أعمال فنية في الأصل طبعًا، وهي فن تفاعلي بالدرجة الأولى؛ إذ يصنعها الموسيقي ليعبّر عن نفسه كما يعّبر كاتب الكلمات، ويسمعها المتلقي ليجد فيها ضالته المعبرة عنه؛ فقد تكون وسيلته للتعبير عما لا يجيد التعبير عنه بالكلام العادي، ولعلّه في سبيل ذلك يتغاضى عن جودة ما يقدم، وعن صحّته الموسيقية، التي من المفترض أنه قادر على تحديدها بالفطرة عبر تمييز النشاز مثلًا، وهذا السبب هو ما يجعل بعض الأعمال تنال إعجاب الجمهور، وإن كانت جودتها الفنية متواضعة، وذلك لأنّ من يُقدّمها وطريقة أدائه لها، بالنسبة إليهم، هي حالة.

منذ بداية القرن الماضي، تدرّجت أغاني الحب في مصر، ابتداءً من الغزل المستتر الخجول، حتى الغزل الصريح المفصّل معنويًا وجسديًا، والإغواء. كثيرون اعتبروا الأخيرة أغاني خارجة خليعة؛ فانحصر تداول تسجيلاتها وأدائها في دوائر وأماكن معينة مثل الملاهي الليلية وبيوت الأنس.

النوع الآخر من الأغاني، هي أغنيات الهجر والانفصال بتدرّجاتهما من عتاب بين الأحبة و التلويح بألم الكرامة وعدم الرغبة في الهجر رغم القدرة عليه، وحتى اتخاذ قرار الهجران وتنفيذه والتعبير عن أسبابه بألم وغضب، ومسامحة وتفهّم أو لوم ونقد، لكن حتى الأغاني ضمن هذا النوع لم تخرج عن حدود ما هي عليه من تعبير إلى خانة الإهانات. بالطبع، الإهانة رد فعل انفعالي وارد ويحدث خلال التواصل الإنساني على أشكاله. لكن ما لا يمكن فهمه؛ هو كيف تتحول التعبيرات العاطفية المعتمدة اجتماعيًا، عبر الزمن، إلى هذا الشكل المتدني من "الردح".

في مرحلة لاحقة، مع ظهور السينما وتقديم الأغنية كوسيلة للجذب داخل الفيلم حتى أصبحا مترادفين، لم تنقص الأفلام رداءة في الكتابة أو الخطوط الدرامية الساذجة، وظلت الأغاني هي العامل الأكثر قيمة فنية وجذبًا في فترة الأبيض والأسود على الشاشة، ولكنها بالطبع صُنعت لتخدم ذات الأفلام. تعتمد الدراما المكتوبة على الواقع بشكل أو آخر، وتعكس جزءًا منه، ولكن حتى بالنسبة لمقيّمي هذا العصر؛ كانت الأفلام خيالًا ساذجًا في تلك الفترة؛ خيال امتلك بجدة الوسائل والقدرة والسطوة على تشكيل الواقع الاجتماعي -والسياسي بالمناسبة من خلال الحشد والتمويه- وهنا بدأت اللعبة.

شكّلت أغاني الحب واقعه، بوصفه معاناةً وعذابًا لا بد منهما حتى في مراحله الحلوة والأولى. مفهوم العذاب اللذيذ الذي نختص به دونًا عن العالم، والذي هو مازوخية بحتة رُسّخ لها في أذهاننا، فما بالنا إذا كانت الأغاني عن الهجر والخيانة والعذاب.. وبالطبع كان لعبد الحليم نجم الأغاني العاطفية نصيب الأسد منها واتسمت بالدرامية الجارفة.

لكن إلى الآن، حتى أغاني الانفصال واللوم والخيانة كانت في إطار منمّق (شيك) لا تخرج عنه، تحكمه الكرامة وصورة النفس في البداية، وربّما يصعب رصد النقطة الفارقة في هذا التحول، ولا يمكن لوم الانفتاح على العالم كالعادة في كل تحوّل اجتماعي، ولا حتى لوم الوضع الاقتصادي وتغيراته (هذا أنتج أنواعًا أخرى من الأغاني، مثل المهرجانات الشعبية). ربّما يصعب رصد أبعاد الظاهرة، لكن تطور الترسيخ الذي حدث من قبل لم يكن يمكن إلا أن يسير في هذا الاتجاه: اللوم المقذع، تمني الخراب للطرف الآخر والأذى، تعديد النواقص التي نملكها جميعًا ودور الضحية المستحب لصاحبه (الصعبانيات كما نطلق عليها في العامية المصرية)، ثم ذكر الصفات التي هي بمثابة الشتائم الصريحة.

مع الوقت، دخلت التعبيرات الدارجة المستخدمة في "الردح" ومشاجرات الشوارع إلى قاموس مفردات الأغاني. في البداية، حدث ذلك باعتباره "إفّيه"، أو كلمة غريبة مضحكة تلفت النظر للعمل الفني وتجعله متميزًا، ثم أصبحت مجالًا للتباري بين الكتاب والمغنين، إلى أن أصبحت جزءًا لا يتجزأ من أي أغنية عن الفراق والهجر، بغض النظر عن أن المحتوى الفني والجودة نفسهما يسقطان من حسابات أصحاب العمل.

كعادة عمرو دياب، في تكرار ما ينجح مع الناس من أعماله بذكاء متناهٍ، وفهم لطبيعة جمهوره، يكرّر نفسه في كل ألبوم بمنتهى الحرفية. في سبيل ذلك، احتوت أغلب الألبومات على أغنية من هذا النوع عند صدورها، بدءًا من "أنا مش هضعف تاني قصادك"، ومرورًا بـ "مالك"، و"كان طيب"، و"معاك بجد"، وصولًا إلى" نغمة الحرمان". ونلاحظ مع الوقت تصاعد حدة النغمة والأداء الدرامي لمخاطبة الحبيب السابق (الإكس).

بالطبع، يمكننا القول إنّها نها مجرد أغان، لكن الواقع أنها تساهم في ترسيخ وتشكيل مفاهيم الحب والفراق في المجتمع، خصوصًا إذا كانت من صنع ميغا ستار لا تنقصه شهرة أو سيطرة نفسية على كتل عظيمة من الجماهير أغلبها في سن الشباب، وبالتالي تحدث تغييرًا مجتمعيًا على المدى القريب والبعيد.

 

المساهمون