الدراما الرمضانية في موريتانيا: الشاشة تتحرّك على الأقل

الدراما الرمضانية في موريتانيا: الشاشة تتحرّك على الأقل

20 يونيو 2017
(مسلسل: أحلام مواطن)
+ الخط -

تأتي الأعمال التلفزيونية الموريتانية، في رمضان، متحمسّة لقول كلّ شيء. لكن الأمر في نهاية المطاف يكاد ينتهي معها، ربّما من حيث لا تدري، إلى عدم قول أيّ شيءٍ ذي قيمة فنيّة، بسبب الطريقة الفجّة والسطحيّة والكاريكاتورية التي تتّبع وتعتمد في التقديم. وهذا الواقع لا يعود لسببٍ واحدٍ محدّدٍ طبع واقع تلك الأعمال التلفزيونية، بقدرما يعود لعدّة أسباب تضافرت وتشابكت لتحدّد واقعها المتجلّي في صيغةٍ قائمة شديدة الضعف.

على الرغم من وعي صنّاع هذه الأعمال بالتحديّات الجمّة التي تعترض طريقهم، إلا أنهم لايكفّون إطلاقًا عن صناعة أعمالٍ متدنيّة المستوى بشكل كبير، ما يبرّر هذا التساؤل: في ظلّ انعدام الإمكانات التأهيلية، هل يبقي الإصرار على تقديم أعمالٍ متدنية ضروريًا ومفيدًا؟ في هذه الحالة يبقى واضحًا أنّ هؤلاء الصنّاع مصرّون، في ظلّ غياب الدعم، على الصناعة، ففي هذا الموسم زادت الأعمال المقدّمة على ستة أعمالٍ تلفزيونية تركّزت سماتها على التسلية ومعالجة قضايا اجتماعية.

لكن عند توجيه السؤال والنقد لهم، سيبرّر أولئك الصنّاع، دون إحراجٍ كبير، إصرارهم بـ"الاستجابة للتحدّي" وتبريراتٍ أخرى لا تقلُّ "بطولية" كـ: واجب المقاومة، والبقاء في ميدان المعركة. هذا ما نتلمسّه، على سبيل المثال، في ريبورتاجٍ قدّمته التلفزة الموريتانية الرسمية مؤخرًا تحت عنوان: "دراما رمضان.. بين الضرورة والتحديّات". في هذا الريبورتاج التلفزيوني يتحدّث بعض الصناع بالنبرة أعلاه نفسها.

باب ميني، وهو مخرج العمل التلفزيوني "أحلام مواطن"، بعد أن استعرض بـ"أسفٍ كبير" العقبات التي تعترض طريقهم كمخرجين، أضاف: "نعرف أن مجتمعنا مجتمع فرجوي، مجتمع مُشاهد، لذا فمن واجبنا أن نخلق له على الأقلّ شيئًا يشاهده".

بافتراضهم تلك الطبيعة "الفرجوية" الجاهزة للمجتمع يقوم أولئك الصنّاع بتقديمٍ منطلقٍ وخريطةٍ لأعمالهم قبل أيّ اعتباراتٍ فنيّة وإبداعية حقيقيّة، ففي النهاية ما ينبغي العملُ عليه قبل كل شيءٍ، بالنسبة لهم، هو توفير مادةٍ "يستهلكها" المجتمع المحليّ المُكوّن من المتفرغين للفرجة المطلقة. وهنا يبدو طبيعيًا أن تتحوّل الصناعة الفنيّة إلى صناعةٍ استهلاكية بدلًا من أن تكون صناعةً إبداعية حقيقية لا تخضع لأيِّ توجيه عموميّ أو استهلاكيّ خالٍ من المعنى. إنّ كون المجتمع متفرجًا يستدعي، بالنسبة لمنطق الصنّاع، إتاحة أيَّ شيءٍ يُشاهد دون مبالاةٍ بطبيعيته الإبداعية وإعطائها حتّى حيزًا من الاهتمام الجديّ.

يصف الأربعيني ختاري ولد إبراهيم الأعمال المقدمة تلفزيونيًا في موريتانيا بـ"الفاقدة لحرارة الحياة"، وهو يقول في حديثٍ لـ"جيل" عندما سؤالنا له إن كان يجد ذاته في هذه الأعمال المقدّمة اليوم؟: "مشاهدتي للأعمال التلفزيونية الموريتانية هي شبه واجب شخصيّ اخترته منذ نهاية التسعينات. فمنذ بدايتها قديمًا، وبغضِّ النظر عن إيجاد ذاتي فيها، كانت تلك الأعمال تحرّكُ فيَّ شعورًا بالسعادة لأنّها تتناول بيئة موريتانية من أيّ نوعٍ. أمّا اليوم، وبعد سنواتٍ طويلة جدًا، فهي تثير فيَّ شعورًا شبيهًا بالتحنيط، بسبب ملامحها الرماديّة من شدّة التكرار والخلوّ من أيِّ قيمةٍ إبداعية فذّة".

من جهته، سلّط الفنّان الموريتاني بون ولد أميده في حديث إلى "جيل"، الضوء على أبرز المشاكل التي تعانيها الساحة الفنية الموريتانية، مركزًا بشكلٍ خاص على الأعمال التلفزيونية المقدّمة في هذا الموسم الرمضاني، حيث يرى أنه "لا يمكن البتّة أن نطلق عليها أعمالًا درامية، فغالب الأساسيات الفنية غائبة:

أولًا، هي لا تكتب احترافيًا بالمعنى المتعارف عليه لكتابة السيناريو الفنية، وذلك واضح من غياب الرابط بين الشخصيات، ثانيًا؛ لا تجسيد حقيقيًا للتمثيل القائم على وجود ممثلٍ واعٍ بالأبعاد النفسية والثقافية والاجتماعية للشخصيّة التي يقدمها، ثالثًا، من الجانب التقني، الإضاءة ناقصة في بعض الأعمال وزائدة في بعضها الآخر بشكلٍ مزعج، والأمرُ ذاته نجده مع الصوت ففي أغلب الأحيان يكون مشوشًا بسبب أنّ ساحتنا الفنية تفتقر لفنييّن في الصوت والإضاءة، وطبعًا يمكن قول الشيء نفسه عن الموسيقى التصويريّة التي هي في هذه الأعمال مسروقة غالبًا أو موّظفة توظيفًا متناقضًا لا يراعي الخصوصية التعبيرية للمشهد والممثل؛ هذا دون أن ننسى مشاكل أخرى".
في كثيرٍ من الأحيان، تتحوّل هذه الأعمال إلى إعلاناتٍ تلفزيونية فقيرة، بسبب صيَغ النصح والأمر الشديدة التي تسود فيها من كل جهة، فطريقة تناولها للمشاكل الاجتماعية والثقافية القائمة تتخذّ من فكرة الالتزام الفنيّ ذريعةً لها، للتحوّل في الأخير، تبعًا لذلك الحال، إلى نوعٍ من العرض الأسري والأخلاقوي لصيَغ "افعل" أو "لا تفعل"، بدلاً من عرضها في شكلٍ أكثر فنيّة لا يتقيّد بغير قوانينه الخاصّة.

تلعب حجّة "الفن الهادف" في هذه الحالة دورًا فنيًا وتسطيحيًا، يستندُ إلى قوالب تنميطية جاهزة لا تخلو أبدًا من التوظيف الإيديولوجيّ، فآليات العرض المباشرة تتحرّك، عبر إذاعة تنميطاتٍ سلوكية وفكرية دائمًا، إلى جعل ذهن المُشاهد على مقاسٍ معيّن لا يمكن معه تحقيق التفاعل الفنيّ الحر الخارج على إطارات الفرجة المحدّدة سلفًا. وهذا ما يترتّبُ عليه ضمان ذلك الذهن استهلاكيًا لصالح هذه الأعمال حصرًا دون غيرها. من جهة أخرى تؤدي تلك التنميطات النافرة إلى خلق نوعٍ من التطبيع الذهني مع الواقع القائم سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، فهي بدلًا من أن تحقق خروجًا نصيًا مغامرًا ينحازُ لوظيفة الفن الفجائية وغير المحدّدة، على تلك التنميطات، فإنّها توّفر الدّعامة الإعلانية لواقع تلك التنميطات عن طريق تجهيز ذهن المشاهد لقبولها والتصالح معها.

التنميط في هذه الأعمال يأخذ في أغلب الأحيان نفسًا سياحيًا وغرائبيًا يحشرُ "المحليّ" في غيتواتٍ عتيقة قابلة لاستهلاكٍ فوقيّ، لهذا يعتبره بون ولد اميده قد "ساهم في تسطيح نظرة المتلقي، حتى أنه خلق جمهورًا من المتلقين لا يحسن التفريق بين العمل الجيّد والعمل المتواضع. جمهورًا من المتلقين باتوا جاهزين للتعامل مع هذا النمط الثقافي الذي تقدّمه كل التلفزيونات، وكأن قدر الموريتانيين أن يعيشوا هذا التجهيل الممنهج لخلق ذائقةٍ مبتذلة.

بشكلٍ عام فإن محاولاتٍ استثنائيّة قليلة جدًا تسعى من وقتٍ لآخر لتشكيلِ فارقٍ نوعيّ في خريطة الأعمال التلفزيونية سنويًا، دون أن تنجح في البروز الفعليّ وتحطيم قوانين الواقع القائم المحبطة. وبقدرما يبعث ذلك على الأمل، فإنه يبعث أيضًا في الوقت ذاته على اليأس. فواقع الساحة الفنيّة في موريتانيا يعاني من صعوباتٍ وهيمناتٍ وعقباتٍ جمّة يأخذُ جزء المسؤولية الرسميّة منها حيزًا كبيرًا جدًا.

ختامًا، يُوضّح الفنان بون ذلك الحال بقوله: "يُفترض من القيّمين على الشأن الثقافي في هذه البلاد أن يحاولوا رعاية التجربة الإنتاجية، فاليوم الثقافة باتت صناعةً، ولم تعد كما كانت. والواقع أنّ الدولة الموريتانية ممثلة في وزارة الثقافة الوصي على هذا القطاع، وفي وزارة الإعلام والمؤسّسات الرسمية الأخرى، لا توليه أيّ اهتمام". مُضيفًا: "وأتحدثَّ هنا من موقع شخصٍ يعرفُ هذا الواقع وبكل تفاصيله. كان يفترض بوزارة الثقافة الوصية على هذا القطاع، أن تدعم الفاعلين الثقافيييّن، وإن لم تدعمهم فعلى الأقل يفترض بها أن تكون حارس البوابة الذي لا يسمح بتقديم أعمال فنية متدنية المستوى كما يحدث اليوم. ولكنها بدلًا من كل ذلك تغيب عن رعاية ودعم الصناعات الفنيّة، قاصرةً دورها فقط على تقديم المتاريس التي تسهمُ في كبت الحرية وتشجيع الرداءة".

المساهمون