الصناعة الثقافيّة: ما بعد الحداثة، عالم بلا حقيقة

الصناعة الثقافيّة: ما بعد الحداثة، عالم بلا حقيقة

07 مايو 2017
(شاشة أندي وارهول، تصوير: جو كلمار)
+ الخط -


حوّلت الرأسماليّة المتأخّرة العلم من وظيفته التنويريّة إلى شكل آخر أدواتي، لا يهدف لتنوير الإنسان، بل لتحويله وظيفيًا ليخدم رأس المال ويساهم في تراكمه، فالهيمنة التكنولوجيّة وتبعياتها الاقتصادية والاجتماعية شكّلت الوعي المعاصر بوصفه استهلاكياً، أنظمة التسليع التي جعلت هدف الحياة هو العمل ثم الاستراحة في سبيل العمل الأكثر.

وتأتي الصناعة الثقافية ومنتجاتها كأسلوب يعكس نمط العلاقات الاستهلاكية المطلوبة، ليتجاوز الموضوع الصناعة الثقافية لنجد أنفسنا في عالم لا متجانس سببه حالة ما بعد الحداثة، بوصفها قراءة جديدة للتاريخ والإنسان وطبيعة العلاقات الاجتماعية.

إذ أصبح للتكنولجيا حضور بنيويّ في تعريف هذا الفضاء الذي اكتسب خصائص جديدة، إذ لم تعد الهيمنة مباشرة للشركات والمؤسّسات الكبرى، بل خُلقت منصّات سمحت بتداخل هذه المنتجات الفردية مع المؤسّساتيّة، لنجد أنفسنا أمام هيولى ثقافية واسعة يتداخل فيها الشخصي مع الأيديولوجي، لنصبح ضمن فضاء عام وفضاء ثقافي لا يعتمد على الإجماع، بل يمكن توصيفه حسب تعبير دولوز، بـ"الطيّة"، لنكون أمام طيّات تتكوّن وتتلاشى بحسب التغيّرات السياسية والاقتصادية، فـ الطيّة تعكس مكوّناتها وتبرزها ثم ما تلبث بالتلاشي ضمن طيّة أخرى.

هذه الطيّات تعكس عناصر متفاوتة ثقافيًّا، وهذا ما يرتبط مع مفهوم ما بعد الحداثة عن غياب الاختلافات بين الفن الراقي والفن الهابط، بين ما هو نخبوي وما هو شعبي، لتتحوّل الثقافة إلى تجليّات مادية (سلع) تتداول وتتلاشى بمجرّد استهلاكها ثم اختفاء الطيّة والمؤسّسات المرتبطة بها التي تستغلها أو تخلقها لضخّ المنتجات التي يتمّ تبنيها من قبل الأفراد والمنتجات بوصفها "ظاهرة ثقافية" ناشئة عنها، هذه الطيّات التي تختلف بعمقها، سواء تغيير فيزيائي هائل كالقنبلة النووية التي تخلخل البنيّة الذريّة للوجود، أو تغييرات وثورات وحركات سياسية واجتماعيّة واقتصاديّة تخلخل الفضاء العام.

فالطية تختزن داخلها مكوّناتها، وفي حال حصول طيّة أخرى نراها تستثني وتحافظ على بعض مكوّنات الطيّة القديمة، لنكون في فضاء تتشارك عناصر طياته بـ"تشابه عائليّ".

هذا التصوّر الما بعد حداثي للفضاء العام وطبيعة الثقافة يعكس عدداً من الخصائص التي شرحها فريدريك جيمسون في كتابه "ما بعد الحداثة أو المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخّرة"، أوّلى هذه الخصائص هي غياب العمق والتسطيح، والمقصود أن النتاج الثقافي والفني يخلو من عمق التجربة الإنسانية، هي مجرد تعليقات منتجات استهلاكية، ويضرب جيمسون مثالًا لوحة فان غوخ "الحذاء" محللًا التجربة الحياتية التي تختزنها مقارنًا إياها بلوحة أندي وارهول "أحذية" 254، والتي تمثل صورة سلبية "نيغاتيف" لأحذية بالية مستخدمة.

ما يهمّ في لوحة وارهول لا الأحذية بالدرجة الأولى والمقارنة بينها وبين حذاء غوخ، بل الوسيط الذي يستخدمه وارهول وما يمثله، فنحن أمام صورة نيغاتيف تدّعي أنها أصل كافة الصور، فنحن لا نعلم لمن الأحذية البالية ولا تاريخها.

لكن اللوحة تطرح التساؤلات التي ترتبط بالأصل، الهالة الفنيّة التي انهارت مع اختراع الكاميرا، حلّ محلّها آلاف الصورة التي تأتي من الـ نيغاتيف، بوصفه مرجعية تقنية واستهلاكية تنتجها الآلة، وهذا ما يحيلنا إلى الخاصية الثانية، ألا وهي هيمنة الاصطناعي، عبر عدد لا متناهٍ من نسخ الأعمال الفنيّة والأدبيّة التي يم تداولها وإنتاجها ضمن الفضاء السايبري، ليضع هذا الأصل المتماسك، لنرى أنفسنا أمام تاريخ مكون من سلسلة من الصور التي يتمّ تداولها واستهلاكها، ذات الشيء في النصوص التي نقرأها في فضاءات النشر التي تحيل إلى صور استهلاكية أخرى، كقصيدة عن فتاة ترتدي الأصفر إلى جانب كلبتها، لنكتشف أنها لفتاة نشرت صورة لها على شبكات التواصل الاجتماعي، فالتأويل في هذه الحالة يحيل إلى الاستهلاكي واليومي، لا الفنّي والجمالي الذي يحاكم الشعر في ذاته كشعر، بل الاستهلاكي وليد المصادفة واللذة العابرة.

هذه المرجعية تطرح تساؤلات حول التاريخانية، إذ تحول مفهوم التاريخ إلى سلسلة من الصور ذات المرجعيات المصنعة مؤسساتياً وأيديولوجياً بهدف الاستهلاك، هذا اللا-اتساق في الحكايات التاريخية هو ما يدعوه فرانسوا ليتوارد انهيار الحكايات / السرديات الكبرى، إذ إن الأحداث التاريخية أصبحت مكوّنة من شراذم صور وحكايات تدعي التماسك، لكنها ما لبثت أن فقدت شرعيتها، هذه الخاصية تحيلنا إلى شكلين أو انعكاسين الأول فني والآخر إنساني.

على الصعيد الفني انتشرت أشكال الباستيش والاحتفاء بالأعمال الفنية والأدبية التي ما زالت تحتفظ بهالتها، إذ تتم محاكاتها وإعادة إنتاجها ومقاربة تقنياتها، لندخل في حالة من الحنين نحو تخيلات عن ماضٍ متماسك كان للفن فيه قيمة إنسانية وخلاص من نوع ما، وكأن نرسيس نفسه قد احترق في أوشفيتز تاركًا لنا الحنين لصورة مرآته.

هذا المتخيّل الرومانسي عن الماضي له تطبيقات أخرى مرتبطة بالانتهاك لتدمير قدسية الأعمال السابقة، وانتهاك هذه القدسية يعني أنه لا يوجد أشكال هيمنة وادعاءات بالشرعية الفنية، ليبتعد الفن عن الصيغة اليوتوبية، إذ لا خلاص فيه، بل هو إعادة مساءلة لتاريخ الفن مرة أخرى، والتشكيك بالأشكال السابقة والتاريخ المرتبط بها، وهذه النزعة نحو تفتيت التاريخ الفنّي تحمل نزعة سياسية مرتطبة بالفن المعاصر وما بعده، فأشكال الفن أصبحت نقدية تُحاكم نفسها وتاريخ الفن نفسه.

الجوانب الإنسانية المرتبطة بالانهيار السابق تتجلّى بحالتين، النزعة الجسدية نحو محاكاة الصورة، إذ إن الصورة والتقنيات الفنية التي تنتج الطيات الفنية والأنساق الجمالية تفرض على الجسد أن يكون بشكل ما ويؤدي بشكل ما، كحالة مارلين مونرو مثلاً التي هي مثال عن اللحم الذي يسعى لمطابقة الصورة، كذلك ما نراه من أنساق أخرى، عبر التبنّي الجسدي لصورة الأنماط التي تعرضها إنتاج ما يتوافق مع هذه الأنماط، كنجوم السينما ونجوم الرياضة الذين تتم نمذجتهم ليطابقوا الصور الفائقة المنشورة عنهم، تنسحب هذه المحاكاة على إنتاج الفن والأدب عبر محاكاة ما هو رائج وسائد ومكرّس، لنرى منتجات ثقافية وفنية تحاكي البنى السياسية والمنتجات الثقافية إلى جانب تبنيها للأنساق والروتينات التي تقدّمها لإنتاج المعنى، كالقصائد التي تكتب إثر حدث سياسي أو شخصي عابر فهي انعاكاسات لما هو إخباري واستهلاكي.

التأثير الآخر والأشد خطورة لانهيار هذه السرديات والحكايات هو الفصام، الشيزوفرانيا المرتبطة بالرأسمالية، هذا الفصام ينتج إثر الوعي بالعجز عن توحيد الماضي والحاضر والمستقبل ضمن حكاية متماسكة تمتلك القدرة الميتافيزيقية على التفسير، وهذا ما ينعكس على الوعي بالذات إثر العجز الذي يشعره الفرد إثر فشله في خلق منطق متماسك لحكايته، وتبنيه أنماطاً صناعية مستوردة من الشاشات، فانهيار سلسلة المعاني والدال والمدلول، يجعل الاستهلاك مسيطراً بوصفه يخلق الوهم بالوحدة والتماسك، وأن الجميع متشابهون لاتباعهم سلوكيات متشابهة قائمة على شراء السلع والتباهي بها عبر الانغماس في تجربة الشاشة؛ استعراض الذات والتعليق على الأحداث بوصف ذلك ضرورة للوجود ومقياسًا لشدته.

الصناعة الثقافية من موقف ما بعد حداثي أصبحت أشد تغلغلًا في تفاصيل الحياة، ما جعل الأفراد ذاتهم يتحوّلون إلى سلع، هم ليسوا السوق الآن، بل السلعة، المعلومات الشخصية لمشتركي منصّات التواصل الاجتماعي أصبحت تباع وتشترى ضمن خصائص وفئات معينة لتهم تعريضهم لأنواع محدّدة من الإعلانات. الفرد في دوامة الفصام هذه أصبح لحمًا وظيفيًا، هو ماكينة تَستهلك وتُنتج وتُوزّع اقتصاديًا.

المساهمون