"قلب الريشات" في موريتانيا: لغزُ الصحراء الدفين

"قلب الريشات" في موريتانيا: لغزُ الصحراء الدفين

31 مايو 2017
(صورة من الأقمار الصناعية/ أوبسيرفر)
+ الخط -
في الرابع من مايو/ أيّار الحالي قام الموقع العالمي Matrix World Disclosure، والمهتم بالظواهر الطبيعية الخارقة في العالم، بنشر مادةٍ عن ظاهرة "قلب الريشات" في موريتانيا، بوصفها إحدى الظواهر الطبيعيّة الفريدة في العالم ككل، مُتطرقًا لخصائصها وطبيعتها والآراء العلميّة التي تناولت تاريخ ظهورها والعوامل المؤدية إليه.

مادة الموقع هذه تأتي في سياق التأكيد المستمر على الاهتمام السائد حاليًا في الأوساط البحثية بظاهرة "قلب الريشات" أو "عين الصحراء" كما في تسميةٍ أخرى شائعة.

ففي مارس/ آذار عام 2008 نشرت أيضًا وكالة ناسا الفضائية على موقعها الرسميّ على الإنترنت تعريفًا بالظاهرة، مُشيرةً إلى اكتشاف البعثات الفضائية الأولى لها قبل سنواتٍ طويلة من الزمن. تلك البعثات التي تعدُّ رحلة رائد الفضاء الأميركي سكوت كيلي أشهرها على الإطلاق عندما حقق رقمًا قياسيًا بوصفه أول رائدٍ فضاء أميركي أمضى فترة طويلةً في الفضاء، برفقة الرائد الروسي ميخائيل كورنينكو، وذلك في عام 2015 عندما سافرا معًا في رحلةٍ فضائيّة لمدّة عام من أجل مهمةٍ علمية دولية.

أثناء رحلته نشر كيلي عددًا من الصور التي تظهر المعالم الجيولوجية الخارقة على وجه كوكب الأرض، وكانت إحدى تلك الصّور صورة نشرها على مواقع التواصل الاجتماعيّ، منبهًا متابعيه إلى وجودها وتمركزها في الصحراء الموريتانية؛ وقد جذبت تلك الصورة إعجاب واندهاش مئات آلاف المتابعين، الذين بدأوا بشغفٍ كبير يطرحونَ الأسئلة حول هذه الظاهرة التي، هي بحسب التفسيرات العلمية السائدة، حفرةٌ ضخمة ذاتُ تكوينات صخريّة متباينة في شمال صحراء موريتانيا، قرب مدينة وادان التاريخية، وتبلغ مساحة قطرها 35 كلم في تقاطع ألوانٍ باهر بين الأصفر والأزرق والأسود في إشارةٍ لتكويناتٍ جيولوجيّة معينة توضحها صور الأقمار الصناعية.

تعودُ قصّة الاكتشاف العلميّ لظاهرة "قلب الريشات" إلى ثلاثينيات القرن العشرين، عندما سافر العالم الفرنسي الطبيعي تيودور مونو (1902-2000) إلى موريتانيا لغرض دراسة الظواهر الطبيعية في المجال الجغرافي للصحراء. وقد كانت ظاهرة "قلب الريشات" إحدى الظواهر القليلة التي استدعت انتباه مونو بشدّة، فقام بدراستها وتنبيه الباحثين في العالم إلى وجودها الفريد ضمن الصحراء الموريتانية القصية، لتبدأ الرحالات الاستكشافية تتتابع منذ ذلك الحين، سعيًا لدراستها بشكلٍ علميّ حديث.

قبل اكتشاف مونو الأكاديميّ كان السكان المحليّون في الصحراء الموريتانية على علمٍ بـ"قلب الريشات" ولكن الاعتيادية البدوية التي كانت تطبعُ حياتهم جعلتهم لا يرون فيها تمايزًا كبيرًا عن غيرها من الظواهر الطبيعيّة الأخرى. وعندما جاء مونو في الثلاثينيات، مزوّدًا بهوسه العلميّ، اكتشفَ ببصيرةٍ فذّة أنّ هذه الظاهرة تستحقُ دراسةً علميّة متأنيّة، نظرًا لما تتمتّع به من فرادةٍ غريبة. من هناك كانت البداية التي جذبت انتباه الباحثين والعلماء في العالم، خصوصًا مع التقدّم المتواصل في العلوم والتكنولوجيا.

مع الرحلات الفضائيّة بدأت الأوساط العلمية تعي الطبيعة الجيولوجية الفريدة لـ"عين الصحراء" بفعل القدرة على النظر إليها عبر الأقمار على نحوٍ واضحٍ يبيّن التمايز الطبيعيّ الذي تمتلك، وهو ما لم يكن متوفرًا للسكان المحلييّن الذين كانوا، بفعل حياتهم التقليدية، ينظرون لها نظرةً بديهيّة لا ترى فيها غير مجسمٍ صخريّ ضخمٍ وممتدّ على مدار مساحاتٍ ترابية كبيرة جدًا. لكن العلم الحديث، ومن خلال الرحلات الفضائية المتتالية، استطاع أن يسلط الضوء على البنية التكوينية للظاهرة على سطح الأرض.

على الرغم من أنّ غالبية الباحثين والعلماء متفقون على التكوين الجيولوجيّ الفريد والمختلف لظاهرة "عين الصحراء"، والذي كان الدافع الأكبر وراء دراستهم لها، إلا أنهم اختلفوا اختلافًا كبيرًا في الردّ على الأسئلة التي تطرقت لأصلها وطبيعتها: ما سببُ ظهورها؟ وفي أيَّ تاريخٍ ظهرت تحديدًا؟ في العام 2008 قدم الباحث الكندي غيوم ماتون في أطروحته للدكتواره e complexe crétacé du Richat (Mauritanie) : un processus alcalin péri-Atlantique عرضًا لتلك الآراء العلمية حول تكوين نظريته الخاصّة، حيث حدّد مجملها وأشهرها في الأوساط البحثية-العلمية، ممثلًا في أطروحات علميّة متعددة ظهرت على مرّ مراحل متفاوتة زمنيًا.

تعدُّ الأطروحة القائلة بأنّ أصلَ هذه الظاهرة الجيولوجية جاء نتيجة سقوطٍ نيزكٍ اصطدم بالأرض أوّل هذه الأطروحات، وقد قدّمها الجيولوجي الفرنسي آندري كايي سنة 1946، وفنّدها عالم الجيولوجيا الأميركي روبرت دييتز في العام 1969، مثبتًا أنه لا توجد أيّ مكوناتٍ جيولوجيّة مغايرة للمكوّنات السائدة والمعروفة في المحيط الجغرافي لعين مكان الظاهرة. وفي العام 1999 قدم باحثٌ آخر يدعى موريس بيبول تفسيرًا جديدًا يعتبر الظاهرة نتيجة نقطة ساخنة في باطن الأرض، أي تلك الصخور التي تصعد من الأرض وتحدث فجوةً هائلة على السطح كما في حالتها هي.

ولكن هذه النظريّة أيضًا تعرّضت لنقدٍ وتفنيدٍ من طرف الباحث غيوم باتون نفسه موضحًا أنّ المحاكاة التي قام بها على الكومبيوتر، من خلال عيناتٍ صخريّة تنتسبُ لعين المكان، لم تساعده على إيجاد أثرٍ يوحي بوجود مثل النقطة الساخنة قبل مائة مليون سنة. وفي ذلك الصدد قدّم باتون نظريته العلمية القائلة بأنّ الظاهرة تنتمي إلى الحوض الرسوبي لتاودني، والذي تشكل أثناء ظهور سلسلة جبال موريتانيد بعيد انفصال قارة غرب أفريقيا عن جنوب آميركا قبل 700-600 مليون سنة، مُضيفًا أنّها بفعل عوامل النحت والتعرية تحولت على مر حقبٍ طويلة من شكل القبّة الجيولوجيّة إلى شكلها الحالي.

على جانب هذه التفسيرات العلميّة المتباينة، فإنّ التصوّرات الشعبية في موريتانيا عن هذه الظاهرة الطبيعيّة لا تخلو من العجائبيّة التي تنسبُ لمجالها الجغرافيّ بعض المزايا الخارقة على صعيد المعيش المرتبط بمتطلبات الحياة القرويّة، القائمة أساسًا على الزراعة والتنمية الحيوانية. ومع ذلك، فإنّ تلك العجائبيّة التقليديّة، ربما لا تسطيعُ مجاراة الانبهار العلميّ الحديث إزاء الظاهرة، والذي استندَ لتفسيراتٍ وأسبابٍ أكثر معقوليّة وتجريبيّة، ولكنه يقف في كل مرّةٍ جديدة على ما يزيد من حيرته وأسئلته.

المساهمون