"بورتريهات الشجاعة" لـ بوش: فن تشكيل الكذبة

"بورتريهات الشجاعة" لـ بوش: فن تشكيل الكذبة

25 مارس 2017
(تصوير: لورا بوكمان)
+ الخط -

يعرف المختصون بالتكنولوجيا أسبابًا عديدة لنجاح تطبيق سناب شات في الفترة الأخيرة، وبينما يستطيعون الحديث عن الجوانب التقنية فيه فترةً طويلة، مبتدئين باعتماده الكلي على الصور، أو منتقلين للإقبال على فلتر الكلب، لا يختلف اثنان منهم على جوهر نجاح التطبيق الأساسي؛ قدرته على إنتاج رسائل تختفي بعد 24 ساعة، ما يدفع الكثيرين للشعور بالراحة والطمأنينة عند استخدامه، عكس فيسبوك مثلًا، الذي يُبقي سجل "الإدانة" بل ويلقيه بوجه المستخدم سنويًا، الذي يقضي وقتًا لا بأس به يُراجِع هذا السجل ويُسارع إلى إزالته قبل أن يُكتَشَف.

نسوق هذه المقدمة التي تبدو ذات طبيعةٍ تقنية للانطلاق منها إلى شأنٍ إنساني، إلى الخوف الذي يعترينا من تفاصيلٍ في الماضي الثقيل، الذي أصبح اليوم أكثر إحاطةً بنا بعد أن بات الواحد منا موضوع قصةٍ محتملة في أية ثانية، وأدرك القائمون على سناب شات كيفية استغلاله.

على النقيض، اعتاد السياسيون أو المشاهير أن تحيط بهم بقعة الضوء، قبل عصر السوشيال ميديا حتى، وألفوا رؤية ماضيهم ينبش في المناسبات والحملات، تشويهًا أو تلميعًا؛ حتى غدا بعضهم لا يرى في تاريخه أكثر من "تجربة" تُطمَس بأخرى، خبرًا بخبر وعنوانًا بعنوان ودواليك، حتى لو عنى ذلك ثماني سنين زخرت بالكوارث، يحاول اليوم مسببها الرئيسي أن يحلّي مرارتها عبر مجموعة بورتريهات مجموعة في كتاب.

بطل هذه القصة رئيس الولايات المتحدة الأميركية السابق جورج بوش الابن، الرجل الذي قضى فترتين انتخابيتين يذكر العالم خلالهما إنجازاتٍ كاحتلال العراق 2003، وفضائح التعذيب في غوانتانامو، وأزمة الرهن العقاري عام 2008. لكن هذا كله لا قيمة له اليوم، فالرئيس السابق الذي لم يغب كليًا عن عناوين الأخبار يعود إليها اليوم لكن، وبشكلٍ غريب، عبر تحقيقه أعلى نسب مبيعات لكتاب لوحاته "بورتريهات الشجاعة" الذي يحوي 66 بورتريهًا لعسكريين بعضهم تقاعد وآخرون لا زالوا في الخدمة، وفقًا لقائمة نيويورك تايمز.


قد تتبادر إلى الذهن، قبل أي شيءٍ آخر، مقارنةٌ بين أدولف هتلر وجورج بوش، لارتباط الرجلين بـ "الهواية" ذاتها، لكن ما يجب التفكير به فعليًا هو الاختلاف؛ فهتلر وما ربطه بالفن سبق تسلّمه الحكم واتخاذه بعدها المسار الدموي الذي يجعل منه أحد أبرز مجرمي الحرب الذين عرفهم التاريخ، وبالتالي فإن كل ما سبق هذا المسار يبدو أقل أهمية ويتضاءل أمام ما تبعه، والأهم لا يُعطي شخصية هتلر ما يستجر التعاطف أو يوفر لها بعدًا جديدًا، كون آخر ما عرفناه عن هتلر كان لحظاتٍ في معركة، أنهت وجوده ككائنٍ حي، أو سياسيٍ دموي.

لكن الأمر يختلف تمامًا عند الحديث عن بوش؛ فبعد أن شهد العالم مآسي عصره، يعود الرئيس السابق إليها محاولًا إعادة تشكيلها، كذكرياتٍ حميمة ربما، لأن "أعظم شرفٍ خلال الفترة الرئاسية كان مقابلة هؤلاء الجنود وتحيتهم كرئيس" كما يقول في مقدمة كتابه، وكأن العالم شهد لسنين عدة تجربةً ما، يحاول فيها رئيسٌ الالتحام بمن يتلونه في المرتبة، بلا ضحايا أو "أضرارٍ ثانوية" قد تؤثر بشكلٍ أو بآخر على فنانٍ اختار ليلةٍ مقمرة هادئةً ليبدأ تشكيله، وتدفعه ربما -عبر سيناريو سينمائي مكرر- لأن يعجز عن الرسم دون أن تقتحم لوحاته أشباح من فقدوا حياتهم أو أحباءهم أو تموضعوا، عراةً، مكدسين، كتذكاراتٍ مصورة في سجن أبو غريب.

وهو أمرٌ سعت الجريدة الساخرة The Onion  لزجّه بوجه بوش حين نشرت خبرًا عن "شبح الطفل العراقي الذي يُطارِد جورج بوش ويظهر في لوحاته"، قبل الإعلان عن كتابه حتى، حين ابتدأ مسيرته الفنية برسم المناظر الطبيعية والحيوانات الأليفة، وعرف العالم عنها عبر تسريبات بريدٍ إلكتروني.

إن انتشار الكتاب، وصولًا إلى مرحلة الـ Best Seller، ليس فيه ما يريح على الصعيدين الأخلاقي أو الفني. فالفن في حالته الطبيعية، بما لا يثير الجدل، قائمٌ بذاته، يُفتَرَض ألا يتكئ على عصا الفنان أو أي قيمةٍ مضافةٍ أخرى.

وبالنظر إلى ما قيل أو كُتِب عن بوش كفنان، سيبدو أبعد وأبعد عن تحقيق إنجازٍ كالذي ناله على كتابه. فمثلًا، يصف الناقد جيري سالتز الذي رأى في بوش بداية عمله فنانًا جيدًا، وعاد بعدها، مع دخول الرئيس السابق عالم البورتريه، إلى نقد أعماله لافتقارها الرؤية أو الإحساس الحقيقيين للرئيس السابق.

بينما يشير إيفان بريكو، رئيس تحرير مجلة "جوكستابوز"، إلى أن أعمال بوش تفتقد المهارة والعمق. وتبدو أقرب إلى أعمال أحد يحاول التأسيس لنفسه كفنانٍ خلاق لكنه لا يملك المعرفة أو التقنية اللازمة لإنتاج ما هو أكثر حرفية من الهواية، ثم يُقارن بشكلٍ ساخر بين بوش التشكيلي وذاك السياسي، مشيرًا إلى نتائجه الجيدة "نسبيًا" في المكتب، مقارنةً بمهارته كرسامٍ طالبٍ في الصف الرابع.



ويتحدث نقاد آخرون عن مواطن ضعفٍ أخرى، بعضها لا يليق ذكره حتى عند الحديث عن فنانٍ مفترض، كاعتماده على الصور الفوتوغرافية لإعادة تشكيل البورتريه ما يضر بالأبعاد والعمق في الصور، وصولًا إلى النقطة الأهم: القيمة المضافة الفورية التي تكتسبها هذه الأعمال بسبب هوية صانعها، في زمنٍ يصعب فيه على من ابتدأوا مسيرتهم في المجال ذاته الوصول إلى مستوى انتشارٍ قريب رغم أن كفة المهارة أو الصنعة تميل إلى صالحهم.

هنا، يتوجب أن نشير إلى الميزانية الجديدة التي أقرّتها حكومة ترامب منذ أيام والتي ستقطع التمويل الحكومي عن قطاعاتٍ عديدة منها الفن، الأمر الذي سيزيد الأمر تعقيدًا على الفنانين هؤلاء ونقمةً على زميلهم الجديد، الذي وجد الطريق معبدًا أمامه، رغم أن أكثر النقاد إعجابًا بأعماله لم يستطيعوا الإشارة إلى جودتها دون عباراتٍ مثل "بالنسبة إلى مبتدئ أو هاوٍ".

أخلاقيًا -وبشكلٍ بعيدٍ كل البعد عن الناحية الفنيّة- فإن مجرد وجود جورج بوش في وسطٍ فني بعد تقاعدٍ هادئ يضرب بعرض الحائط كل ما يُتداول عن العدالة أو القانون الدولي أو حقوق الإنسان، هو الذي اختار أن ينسلّ بهدوء واختار بعدها العودة، حاملًا معه ذات المفاهيم التي لم تتغير أو تخضع لأي مراجعة كـ "الشجاعة والوطنية والواجب" بمعانيه هو، دون النظر إلى الطريقة أو شدة الانفجار التي ظهرت بها، أو عبرها، ما يجعل التساؤل مشروعًا عن ماهية العمل نفسه، بين البروباغاندا أو الفن، حين تغيب مقومات العمل الفني وتحضر مكانها الرسائل ذات المفاهيم السابقة، عبر عنوان العمل وفكرته الأساسية وشخوصه، من دون الحاجة إلى وسيطٍ كالفن التشكيلي لتمريرها.

هل يعني هذا حكمًا بمنع جورج بوش من مزاولة الفن، استنادًا إلى جانبٍ آخر، سياسيٍ، من حياته؟ بالطبع لا. من حق أيٍ كان التعبير عن نفسه بالطريقة التي يفضلها، لكن الحديث هنا تخطى التعبير، وصولًا إلى حدثٍ اجتماعي، ومكانٍ لا يجب أن يكون بوش موجودًا فيه أساسًا (في حال افترضنا وجود نظامٍ قضائي يدينه)، والأهم غاية ترويجية لخلق الصورة الجديدة لجورج بوش: الفنان، السياسي المعتدل (الذي حذّر ترامب مؤخرًا في مقابلةٍ تلفزيونية من "الإدمان على السلطة" وأصبح موضع الاحتفاء من قبل اليائسين، الباحثين عن بطلٍ يواجه الرئيس الحالي، ولو كان جورج دبليو بوش).

ربما لو حاول بوش -في افتراضٍ صعب التحقيق- تجربة موهبته بالرسم كجزءٍ من علاجٍ لإعادة التأهيل، أو لقضاء الوقت بانتظار محاكمةٍ عادلة، لكانت النتائج أصدق، وأقرب إلى الحقيقة وأكثر منطقية. ربما كان ليجد ما يلهمه أو يغيره في تجربة ريك كلاتشي، ممثل بيكيت الشهير وصديقه، الذي تعلّم، دون كل رواد المسارح المحترمين "انتظار غودو" في السجن (بسبب تهم سرقةٍ مسلحة، فقط)، ويجعله ينظر إلى الفن كمصلحٍ أو منقذٍ له.

المساهمون