الراب في الساحة العربية.. أزمة وتجاهل (2 – 3)

الراب في الساحة العربية.. أزمة وتجاهل (2 – 3)

23 مارس 2017
+ الخط -

ولئن يحق لنا أن ننساها يجب أن نتذكر كيف أنه في وقت اندلاع الانتفاضات العربية لاقت "أصوات الثورة" في وقتها اهتمامًا ضخمًا للغاية. في تونس مثلًا، أحد مغني الراب المغمورين الذين كان يعرفه فقط المتخصصون في هذا النوع من الموسيقي وجد نفسه فجأة مدفوعًا إلى مقدمة المشهد لأنه تحلّى بالشجاعة والإقدام في هذا الوقت لنَشر، على شبكات التواصل بصفة خاصة، أغنية تنقد بعُنف النظام الاستبدادي الذي كان لا يزال موجودًا.

بفضل هذه الأغنية التي تُدعى "ريس البلاد"، وجد "الجنرال"، وهو مُغنّيها، نفسه في قوائم الشخصيات العالمية الأكثر تأثيرًا. أدرجته مجلة Times الأميركية مثلاً على قائمة "الشخصيات الـ 100 الأكثر تأثيرًا في عام 2011".

منذ ذلك الوقت، الجنرال سقط عمليًا في غياهب النسيان. لكن آلة صُنع الشهرة السهلة لم تتوقف عن العمل: منذ عدة أسابيع فقط، لاقى مغني راب تونسي (من ضمن عشرات آخرين) حفاوة في الصحافة، خاصة الصحافة الفرانكوفونية، بسبب الدعوى القضائية التي رُفعت عليه. عنيتُ بكلامي ولد الكانز (15)، وقد أُطلق سراحه ثم نصبوه "شهيدًا" لحرية الغناء في بلده.

تمامًا مثل الجنرال من قبله، نرى جيدًا أن تاريخه لم يكن سوى حكاية مكتوبة مسبقًا، أيّ التعارض الجذري بين الشباب المبدع والمتمرد المستعد للتضحية بنفسه من أجل حقه في التعبير عن أفكاره في تونس متحرّرة من الديكتاتورية، وبين القوى الظلامية المتطرفة الإسلاموية التي تريد استبدال الطغيان السابق بطغيان أكثر رعبًا منه.

يمكن أن نرى في تونس، وهي أرض خصبة للملاحِظ، مثالًا لمثل هذا النوع من التعليقات، ولكن من باب الإنصاف يجب أن نقول إنها البلد الذي مهّد الطريق أمام الانتفاضات العربية، وإنه يقدّم إحدى أغنى الساحات في المنطقة من منظور الموسيقى البديلة Alternative وما تنتجه من أغاني راب بشكل خاص. بيد أنه يمكن لنا أن نقول هذه التأملات نفسها في أماكن مشكوك فيها مثل ليبيا وسورية؛ حيث، على الرغم من كل شيء، وُجِدَ فيها ممثلون "مستحقون" لهذا الراب الثوري، على الرغم من أن الساحة المحلية هناك مقيدة للغاية.

وحتى في مصر، فإنه بديهي لأي شخص يعرف القليل عن الساحة المحلية هناك أن الهيب-هوب، إلى جانب الأغنية الاحتجاجية على طريقة يسرا الهواري، لا يمكن أن ينافس مع النمط الموسيقي الجديد المنبثق من الأحياء الشعبية الأكثر فقرًا، أيّ المهرجان (أو الشعبي التكنو)، الذي لم يحظ بالاهتمام نفسه من قبل وسائل الإعلام الأجنبية.

ومع ذلك، فإن خيار استعراض شكل موسيقي معيّن، أيّ الراب هنا، وبشكل أعم، استعراض نوع معيّن من المنتوجات الثقافية التي نربطها طواعيةً بـ "الربيع العربي"، ليس فقط نتيجة عدم الإلمام بالمعطيات الحالية عن الإنتاج الفني للشباب العربي.

بخصوص ماضي هذه الأشكال الموسيقية الجديدة، أودّ أن أتحدث بحماس عن الحيوية الرائعة للراب العربي في السياق ما بعد الثوري، لأن ذلك يعود بلا شك إلى قرابته مع طليعة هذا الفن الموسيقي، ولكن على حساب إحداث قطيعة كاملة مع البيئة التي ازدهرت فيها ثقافة الهيب-هوب العربية.

مغنو الراب العرب، المديونون نوعًا ما إلى معلميهم الأجانب، محرومون، بشكل مزدوج، من تاريخهم: التاريخ الأقرب هو العشر أو حتى العشرين سنة التي سبقت الانتفاضات العربية، والتي أبدع خلالها رواد هذا النوع من التعبير، في تونس ولبنان وفلسطين والمغرب، وعادةً ما كانوا يبدعون وهم معرّضون للقمع السياسي، من دون أن يثيروا أدنى اهتمام عند البلاد الأجنبية التي كانت حكوماتها، من جانب آخر، تهتم بأن تستمر هذه الدكتاتوريات العربية في الحُكم لأطول مدة، وكانت تربطها معهم علاقات قوية.

أما التاريخ البعيد فهو من منظور أن موسيقى مغني الراب العرب، المتميزة بحق، هي جزء من الزمن البعيد للتقاليد الموسيقية المحلية، ومن العلاقات التي تربط اللغة العربية، بمختلف مستوياتها اللغوية، بهذه المستويات الأخرى، الأدبية والموسيقية، الأمر الذي يُعطي بصمة خاصة لهذه الثقافة.

الكتابة إذن عن مغني الراب العرب فقط في إطار الانتفاضات الثورية، لا ينم فقط عن جهل أو تكاسل فكري، بل يعني، من دون قصدِ بالتأكيد، أن نحرم هؤلاء المغنين، والذين كنا ننوي مدحهم، من تاريخهم الحقيقي، وأن نغض الطرف عن صراعاتهم ومساراتهم الخاصة، ولا نستفيد سوى انبهار عابر بـ "اندماج" عالمي. وفي نهاية المطاف، توجد دائمًا تراتبية في هذا "الاندماج" نفسه توجد تفرقة بين النماذج والمقلّدين.

أن نتحدث بحماس عن قرابة الممارسات الموسيقية والفنية (لا سيّما الغرافيتي) للشباب العرب بالمنتوجات الغربية، من دون أن نحاول مطلقًا وضعها في سياقها، بل على العكس، أن نُشير إلى بُعدها الشامل، يعني أن نترك أنفسنا لمفاجأة قرابة خيالية جزئيًا.