السينما السورية.. سُلّمٌ في اتجاه الفضاء (3 - 3)

السينما السورية.. سُلّمٌ في اتجاه الفضاء (3 - 3)

13 مارس 2017
( من فيلم: سلّم إلى دمشق)
+ الخط -

لم يمس التغيير طبائع الناس واصطفافاتهم فقط، بل صار التغيير يمسّ الوضع الجغرافي والتركيبة الديمغرافية استباقًا لخرائط جديدة يُخَطط لها بالمنطقة، بل يتمُّ تنفيذها على الأرض، فالتخطيط تم منذ سنوات وبمساهمة عربية أصيلة قدّمت المنطقة وشعوبها لقمة سائغة للعدو، بعيده وقريبه على حدّ سواء. والعزاء أن هناك رجالًا صدقوا ما عاهدوا الله عليه رافضين الاندماج في عقلية القطيع تمامًا كما صوّرها سعد الله ونوس في مسرحيته "الفيل يا ملك الزمان". لكن الواقع على الأرض يواصل التغيّر يومًا بيوم ولحظة بلحظة بخطوات محسوبة ومدفوع إليها دفعًا، وفي غفلة من الزمان.

في صالة المغادرين بمطار دمشق، يجلس الأب المقعد ألبير مزراحي، اليهودي الديانة، بجانب ابنته هالة في انتظار المغادرة النهائية إلى إيطاليا حيث استقرّت العائلة الكبيرة منذ سنوات، والمشهد من فيلم (دمشق مع حبي)..

ألبير: تعرفي، هاي أوّل مرة أترك الشام.

هالة: ما حدّ جبرك..

في الأخير، سافر الوالد وحيدًا بينما عادت البنت أدراجها للبحث عن حبيب ظنّت أنه مات قبل عشرين سنة، بينما كان الأب على علم بحقيقة مصيره وأخفى الخبر عنها حتى لحظة الجلوس بصالة المغادرين بالمطار.

وهو في سيارة عشيقة أخيه الإيطالية التي تكفّلت بتوصيله من مطار روما إلى حيث داوود العشيق/ الأخ، بدأ الحنين يدبّ في نفس ألبير مزراحي، فانطلق لسانه العربي يتحدّث عن الشام وهو يعلم أن الفتاة بجنبه لا تفقه من كلامه حرفًا.

ألبير: أنا جايب معايا تراب من الشام.. (يفتح الإناء حيث التراب) تحبّي تشمي.. المكان هو الذاكرة.. بس الإنسان يترك مكانه بيترك ذاكرته.. مشان هيك قلت لهالة على قصّة الشاب هذا مشان تبقى في الشام.. هذا مشان تبقى في الشام.. مشان تبقى بذاكرتها.. الذاكرة هي الشوارع والحارات.. هي البيوت، هي المحلّات.. هي الشجر، هي الجيران والناس.. هاي الذاكرة.. المكان.

أما دانيال، وهو شاب من عائلة يهودية سورية هاجرت إلى إيطاليا، فيستعرض ذكرياته بدمشق.

دانيال: في دمشق كنا نسكن في حارة قديمة في منزل كبير وجميل.. عند خروجنا من المنزل كان هناك زقاق ضيّق، من جهة اليمين يفضي لباب توما، ومن الجهة الأخرى كنا نذهب حتى نهاية الشارع باتجاه مقهى اسمه النوفرة.. مقهى جميل جدًا.. وبجانبه درج كنا نصعده ونرى جدارا ذا أحجار كبيرة.. هذا كان حائط الجامع الأموي.. مسجد بديع.. ومن هناك كنا نذهب.. يمين.. نسيت.. دمشق الآن بالنسبة لي مجرّد ذكرى بعيدة.

تقدّر أعداد النزوح السوري الداخلي بستة ملايين، والنزوح الخارجي بثلاثة ملايين. وكلّها أعداد لا تزال محتفظة بذكرياتها أسماء شوارع ومقاه وأزقة وجوامع. والإصرار على تغيير معالم المكان في جغرافيته ولغته وعاداته محاولة لإعادة التركيب استباقًا لأي حلّ؛ تقسيمًا كان أو فيدرالية أو حربًا متواصلة. واللاجئون في الأوّل والأخير مجرّد وسيلة مقايضة رأسًا برأس، أو فرداً فرداً، حسب التعبير الخالد للعقيد القذافي، في اتفاق تركي أوروبي بمباركة إقليمية ودولية همّها الوحيد دفع الهاربين من الحرب المستعرة بعيدًا عن حدودها.

يواصل ألبير مزراحي الحكي وهو داخل سيارة الشابة الإيطالية التي لا تفقه من العربية حرفًا.

ألبير مزراحي:

الشام! شو بدي أقولك عليها؟ ما في بيت ما كان فيه ياسمين وما كان فيه نرنج وكبادة وليمونة وعرايش عنب.. داوود كان يطلع يسرق عنب من على السطح.. البيوت هيك معانقة بعضها، لافّة بعضها.. كانت البيوت من الطين.. الصبح بكير كان يجي الكناس ع الحارة ومعه اللي بيرش الماي حاطط القربة ورا ظهرو، وماسك جلد الخروف من رقبته وعم يرش فيه الأرض والكناس يكنس عشان ما يغبروا ع العالم.

ما الذي بإمكان الكنّاس أن يفعله أمام حجم الدمار الذي ألمّ بالمنازل والمساجد والمحلّات، وبكل أوجه الحياة المدنية بأوسع مناطق سورية؟ صحيح أن المنازل لا تزال معانقة و"لافّة" بعضها لكن على الأرض حجرًا فوق حجر بعد أن تمكّنت البراميل المتفجرّة من تحويلها إلى مجرّد ركام.

في فيلم "الليل الطويل"، مات كريم، المعتقل السياسي المُفرج عنه، قبل أن يصل إلى أبنائه بعد أن اختار تراب ريف الشام ملاذًا له. وفي فيلم "دمشق مع حبّي"، مات ألبير مزراحي بعد ساعات من وصوله إلى إيطاليا، وهو يشتمّ حفنة من تراب الشام أحضرها معه قبل أن يصل لبيت العائلة أيضًا.

فهل يكون قدر سورية أن تموت بعيدًا عن أعين أبنائها ليتصالحوا بعدها على جثّة الوطن أو يقسموها أو يتلقوا فيها العزاء هناك بعيدًا في المنافي ومخيّمات اللجوء؟

يفتتح فيلم (سلّم إلى دمشق) قصّته بحديث بطل الفيلم في مواجهة الكاميرا/ الجمهور.

سليمان: أنا بعيش في بلد ما بيعطيني شيء وبيطالبني بكل شيء. بيطلب مني أخاف وأني أسكت.. لما بديت الأحداث الحالية بسورية اندهشت لأنو أبي بعث لي كاميرا وبعث لي معاها رسالة بيقولي فيها: اطلع ع الشارع وصور يا ابني.. ما كان ها المسكين يعرف أنو اللي بيطلع ع الشارع ها الأيّام ومعاه كاميرا بيقتل..

وفي الفيلم ذاته، وأيامًا بعد خروجه من المعتقل بسبب نشاطه السياسي في بدايات الحراك السوري، يتابع حسين نشرة أخبار تنقل خبر مقتل من عُرِف بعرّاب مصوري الثورة باسل شحادة وأحد تلامذته. يصرخ حسين ويرمي بجهاز التلفزيون من أعلى محدثًا صوتًا أقرب إلى انفجار. يفتح حسين غرفة أحد زملائه.

حسين: شو؟ نايم يا ابن الجولان؟ اعطيني ها السلم!

يأخذ السلم ويخرج صاعدًا إلى الطابق العلوي.

الملاكم الفلسطيني: حسين، لوين؟

حسين: لعند الله.

صعد حسين إلى سطح البيت الشامي الذي يأويه وعدد من زملائه فتبعه هؤلاء. وضع حسين السلم في اتجاه الفضاء وبدأ في الصعود مسنودا بالآخرين.

حسين: (بعد أن وصل لأعلى)، ردّدوا وراي.. حريّة (بأعلى صوته)

انفجار وظلام على الشاشة.

إعادة تركيب البلد تحتاج أن تتمّ في الظلام، وأية محاولة للثورة على نظام مستبد، أو لتوثيق الحياة بالشام كما هي اليوم، خطر على مشاريع التغوّل الإقليمي ومشاريع الخرائط التي يتم التحضير لإقرارها بالمنطقة، بدءًا بالعراق ومرورًا بسورية وانتهاء ببقية الدول التي تعتبر نفسها، إلى اليوم، في مأمن من طوفان الفوضى التي سُميت ذات يوم خلّاقة وهي منه براء..

المساهمون